أسواق العيد... للفرجة حظ أوفر! رحلة السوري الطويلة... سوق بلا سكّرٍ ورحمة

أقسم أبو خلدون (صاحب بقالية) أنه ذهب إلى سوق البزورية (رجل لقدام ورجل لورا)، وأضاف أن بائع جملة الحلويات والشوكولا قال له: «ما مرق علينا مثل هالعيد». هذا حال أغلب من سألناهم أثناء تجوالنا، كمواطنين لا كإعلاميين، من أبي خلدون مروراً بأصحاب محالِّ الألبسة والأحذية، ويكاد يجمع أهل السوق على ذلك، وكما قال أبو هاشم صاحب محل الحلويات الشهير: «الحال من بعضه، كل الأرزاق معطلة، الناس ما معها مصاري، والشتوية فوق رأسنا»، أما من أخذ الأمر بصدر رحب هو بائع بسطة «شحاطات» حيث قال: «لن تجد زحاماً إلا في صباح العيد، على نبات (الآس) لزيارة الأموات.. الله يرحمنا!».

مقدمات استثنائية

حتى العام الفائت لم يكن الأمر هكذا، كل سنة أتعس من التي قبلها، اليوم أحسن من بكرة... كلمات يرددها الشارع السوري بصوت عالٍ هذه المرة، يبدو أن الضيق ضيق معه الصدور، الناس يذرعون السوق جيئة وذهاباً، ويعلو صياحهم من الأسعار الكاوية، ووصل الأمر إلى مشاهدة زوج وزوجته يقتتلان في الشارع، ومن الممكن أن ترى دموعاً في عيون الأبناء الصغار، الصغار الذين لا يعرفون مدى قلة حيلة الكبار، الكبار الذين يسحبون في يوم قبض الراتب الاستثنائي الذي أقرته الحكومة 24/11/2009 أوراقهم المالية، وبغصة على انتهائها، يدركون أن العيد للصغار، ومن حقهم ألبسة جديدة، وأحذية جديدة... وفرحة حقيقية، وفي نفس الوقت يدركون طعم الأيام المرة التي ستلي هذا الدفع والاستنزاف، فأربعة أيام هي فترة العيد، ستقضي على تعب شهر كامل، راتب شهر كامل، إن لم تقض على الشهر الذي سيليه.
العام الفائت كان أسهل من حيث تأمين الوقود، فالحكومة قدمت 1000 لتر مازوت بالسعر المدعوم 9 ليرات، أما هذه السنة فحتى اللحظة لم تفرج الحكومة عن (شيكها) الموعود 5000 آلاف ليرة بالسعر العادي للتر 20 ليرة، أي أن مقدَّم الدعم لا يكفي لملء برميل المازوت، كذلك مؤخره.
هذه السنة يأتي العيد بظروف استثنائية، فعدا عن الوقود الذي يشكل هاجساً مخيفاً لكل الأسر السورية المنهكة، هناك مخاوف أخرى.. الأمراض الوافدة كأنفلونزا الخنازير والوفيات التي تكاثرت فجأة ووصلت إلى ما يزيد عن 50 وفاة تقلق حياة السوريين، ويكاد مرض بسيط كما كان يراه السوريون يجعلهم يهرعون إلى الأطباء.. وعند الأطباء حدث ولا حرج.
سيخرج الناس من الأيام الأربعة إلى آخر الشهر حيث قائمة الفواتير التي تنتظر، وربما تحمل في جعبتها مفاجآت صارت بالحسبان، فواتير الماء والهاتف والكهرباء، التي صارت تشكل نصف دخل السوري، لم تعد أمراً عادياً، فمن المتوقع أن تصدمك فاتورة كهرباء بـ2000 ليرة، أو فاتورة ماء عن دورات سابقة أخطأ المحاسب أو المؤشر بعدم احتسابها بـ3000 آلاف ليرة، ومن الممكن أن تخطئ بحقك وزارة الاتصالات في رحلة بحثها عن تشغيل نظام الفوترة الجديد، فتعفيك دورة وتقصف عمر راتبك بدورة تتجاوز توقعاتك.. من الممكن أن يحصل أي شيء، في آخر الشهر.

في بدائل الدعم

لم يوفر المواطن وسيلة لتدفئة صغاره، كذلك السوق الذي ينتظر المشاكل والمصاعب ليقدم الحلول على هواه وبأسعارٍ هو من يصنعها، وهو الذي يرسم صعودها وهبوطها، في بدائل الدعم الذي لم تبدُ بعد بوادر وصوله رغم قلته، من الممكن أن تعود لمدفأة الحطب، ولها ما عليها، غلاء الخشب وضرره الصحي، والبديل الأخر الغاز الذي كما تعودنا سيصل إلى الأزمة في نهاية السنة بحجة «الجرد» وستشتري عبوات الغاز بسعر السوق السوداء، ومدفأة الغاز ليست أوفر، بل أشد مصروفاً وخطراً، وإما فدونك أيها السوري رحلة الكالون، والاصطفاف المذل الذي اعتدته.
الأسهل عند البعض غير القليل هو الاعتداء على شبكة الكهرباء، فمن الممكن أن تسرق (خطّاً) من أجل استخدامه في التدفئة، وهذا يتم على يد معلم كهرباء، أو أحد موظفي خدمة الطوارئ، وهنا من الممكن أيضاً أن يمر عليك شتاءٌ دافئٌ بسلام، أو أن تدفع عن ذلك ضبطاً يقودك إلى القضاء، وهنا السجن والغرامة؟
احتمالات وبدائل من باب (دبر رأسك) لابد أن يمر بها السوري، الذاهل من الغلاء والراتب المحدود، وخطة سعادته بنهاية عام 2010 موعد انتهاء الخطة الخمسية العاشرة، والدعم الذي ينتظره بفارغ الصبر.

سوق الفرجة.. فقط

هذه المرة كل الأسواق بكل مسمياتها وتاريخها، من الحميدية، الأكثر شهرة لجموع الناس، مروراً بسوق (عاصم) في منطقة الدويلعة، الذي يصح أن يكون (شعبوياً)، حتى البسطات التي تتزاحم في أسواق أيام الأسبوع في القرى والبلدات الصغيرة وأشباه المدن، تقاسمت الفراغ، الأسواق خلت من مرتاديها المعتادين، بعض الذين مازالوا يمرون من قبيل التفرج والتذكر أو بعض الشاردين الذين يتأملون الواجهات، بعض المحلات تمسكت بزبون أو اثنين من قبيل الدعاية.
الأسواق الشعبية شهدت حركة قليلة، فقط من تشجعوا لصرف آلاف قليلة، في رحلة البحث عن أرخص ما يمكن لثوب جديد. ما قبل العيد يزدحم سوق الأحد في (جديدة عرطوز)، يهجم المتسوقون من محيط المنطقة، السوار الفقير الذي يمتد من خان الشيح ـ دوروشا ـ قطنا ـ المعضمية، أغلب الغوطة الغربية تذهب إلى سوق الأحد، يتجمهر الناس حول السيارات الواقفة المحملة بالحلويات الرخيصة المكشوفة، الملابس المعلقة على مشاجب من أعمدة، الأحذية المصفوفة على ألواح خشبية.
سوق (عاصم) في الدويلعة مثار حديث البسطاء عن الحوائج الرخيصة، سوق مصفوف كما البسطات لكنه أكثر انتظاماً، وأغلى سعراً بقليل، هنا.. في سوق عاصم.. الفقراء يجدون بعض العيد.
أما في الأسواق التي كانت ذات يوم للطبقة الوسطى أو تزيد، مثل الصالحية والحريقة، فيكاد الأمر يثير الضحك والأسى، الصالحية التي اصطفت محلاتها بأناقة، وتوزعت على زجاجها عبارات الترويج، صامدة مع الفراغ، مجموعة من البشر يزرعونها ذهاباً وإياباً، بعضهم فقط يعود بكيس أو اثنين، البقية يحملون الهواء في صدورهم، منفوثاً مع الدخان.
باب الجابية، قبلة الطبقات المتداخلة مع بعضها، الفقراء، الباحثون عن موديل جديد في بسطة بالة، الباحثون عن قطعة من خمسين إلى مائة ليرة، الباحثون عما تيسر من العري، خليطُ مَن نثرتهم الطبقات، أو ألقت بهم على هامشها.
أما الحريقة، السوق العريق، سوق الدمشقيين، وبعض من تداخلوا معهم من أبناء الريف، موظفي المدينة، مازالت تحتفظ ببعض زبائنها، لكن حتى هؤلاء بدأ يرتسم على ملامحهم شعور الاستغراب، والوقوف الطويل لاختيار قطعة تناسب تدهور الحال.

سوق بلا سكَّر

قبل العيد بأيام تعبق رائحة الشوارع والبيوت برائحة الحلويات المشوية في أفران تنتظر من عام إلى آخر، في الليل يلف الصمت والرائحة المغموسة بماء الورد شوارع الفقراء أيضاً، فحلويات البيت أرخص وأطيب، والطقس الذي تفرضه فيه ألفة ومحبة هما جوهر العيد.
فيما بعد، ومع الوقت القصير للناس، العمل ليل نهار من أجل لقمة العيش لم يترك لهم المجال لهذا الطقس، صار السوق هو الملاذ من أجل حلويات جاهزة ودون عناء، لكن السوق تحترق بالأسعار الكاوية، فمع ارتفاع أسعار المواد الأولية ازدادت الأسعار وتضاعفت الأرقام التي كانت تزين (صدر النابلسية) والـ(كول وشكور) و(المبرومة) وسواها.
عَود على بدء، فأبو خلدون يشعر ببعض الندم للكمية التي اشتراها، والتي يخشى أن تقبع في صدر محله حتى العيد القادم، وهذا ما تبشر به الحركة البطيئة والباردة للسوق.
المعامل التي تسكن في أقبية الأبنية مازالت تبث روائح الحلويات المشوية على نار أفرانها الهادئة، لكن أبا قاسم الذي تشتهي المرور أمام معمله، يؤكد أن البضاعة التي يصنعونها في العيد استثنائية، ومن هنا تأتي الخشية في ألا تنفد وبالتالي ستكون الخسارة فادحة.
حلويات الفقراء في العيد تبدو بلا مشكلة (البرازق، الغرَيبة، العجوة، المعمول) لأنها الأرخص والأنسب، وأصحاب المحلات ملؤوا العلب الجاهزة بحجم 1 كغ، وبسعر يتراوح بين 150 ـ 200 ليرة للكغ. وهذا يناسب حجم عيد فقير دون أنَفَةٍ وبهرجة.
أما (البيتفور) فيمكن أن يتم التحكم بنوعيته حسب المواد التي تشكله، نوعية (المكسرات) التي تغطي وجهه الأبيض أو البني، مع ذلك بالإمكان شراء بعض الكيلوات منه، وسعره يتراوح بين 175 ـ 250 ليرة سورية.
أما المكسرات فهي حسب الطبقة، فمن الممكن شراء 1 كغ من المكسرات المشكلة، فستق، بزر بأنواعه، قضامة إلخ.. أما إذا كانت الحالة المالية تسمح، وهذا للبعض فقط، فيمكن إضافة الألوان الأخرى وعلى رأسها (الكاجو)، مع العلم أنه يمكن تناولها بدونه.

حديث البيوت

تتهامس النسوة عن ماذا حضرن للعيد، كانت أم منصور مثلاً تتباهي بأصناف الحلويات المحلية التي تصنعها (كعك العيد، جوز الهند، المعمول بالعجوة والفستق وجوز الهند)، وعن قهوتها المرة، سكاكر العيد، الشوكولا الفاخرة، أم منصور زوجة موظف متقاعد، لكنه جمع مالاً وفيراً من وظيفته.
أم سليمان الأرملة التي تعتاش على حسنات الجوار، تستشعر الخطر القادم، بما أن الجيران يشكون القلة فهل ستعيش هي على ما سيبقى من قلتهم؟ هذا إن بقي!! لكنها تتنهد بحسرة: (الله ما بينسى حدا).
أم علي التي كعادتها تتوسم خيراً بالسماء ترى أنها ستفرج، لابد ستفرج، وأن الله لا يمكن أن يترك عباده دون فرح، حتى ولو كان قليلاً..
الرجال باعتبارهم متضررين فعلياً، يسألون الله مفاجأة أو معجزة، رغم أن قناعاتهم تقول إن المعجزات هي من زمن ولى، فكيف بالإمكان أسعاد الصغار، إرضاء الزوجات، واستقبال الشهر الذي سيلي العيد؟
أغلب جلسات الناس، في حارتنا على الأقل، والتي تشبه كل الحواري في بلدي، هي الغلاء، والعيد الذي سيأكل الأخضر (إن وجد) واليابس (الموجود)، وكل الرجال يصرِّحون بأنهم استدانوا، أو سيستدينون بالتأكيد بعد العيد، وأن العيد سيمضي باعتباره أياماً، لكنه سيترك وراءه ما لا تسده شهور.

مثل العيد سيمرون

في زحمة الحديث عن الناس العاديين، وحدهم لا يفكرون بالعيد، هل يمكن للمتسول الجالس على رصيف شارع دمشقي أن يفكر بلباس جديد للتسول؟ هل يمكن للفقراء الذي يعيشون تحت سقف غرفة واحدة أن يفكروا بمشوار أو معايدة؟ ربما يمر بهم بعض المحسنين، بعض الجوار، ليلقوا لهم ما يعود عليهم بالحسنات.
يبقى العيد مناسبة لتذكر الوجع، فقد سقط الفرح عندما رفعت الدولة يدها عن السوق، ورفعت دعمها عن جموع الفقراء... كانت الدولة أماً حنوناً للذين لا أحضان تحميهم من البرد، وكان الوقود الرخيص إحدى وسائل فرح الفقير.. قليل من الدفء يحيي الروح المرتعشة من الجوع.
وفي الطريق إلى العيد... يسقط الفقراء والمطر.

معلومات إضافية

العدد رقم:
430