مطبات: أمنيات صالحة للنشر

كما في كل مرة، نعود إلى الأيام المتشابهة نفسها، تتشابك الأيدي الفارغة والبيضاء، تشد على بعضها كعناق عاشقين، أحياناً تنطبع القبلات على الأكتاف والخدود، كما في كل مرة، كما في كل هذه الأيام المتشابهة.

تتعالى التهاني.. التبريكات، المعايدات، والدعوات... (كل عام وأنتم بخير... جعلكم من عوَّداه)، يدور المحبون على البيوت، الابتسامات على الوجوه، والترحيب على الشفاه، أمنيات في قلب كسير.
كما في كل مرة، يأتي العيد من بوابة السنة، في الزمن نفسه المرهون للضيق، يأتي العيد كخاتمة لكل الأوجاع المادية المتلاحقة، ليكمل دورة التوهان في ركض لا ينتهي، وفي عناد لابتسامة تكاد تسقط من الشفتين لولا حياء المناسبة... كم مرة نستطيع تطويع الابتسامة عكس القلب، وكم مرة سنهذي بأغانٍ ليست في دهاليز الرأس الثمل، وكم من هتاف خاسر سنردد، وكم خيبة سنحصد، وكم غصة مثقلة بتعداد أيام الوجع، من البوابة نفسها دائماً تأتي الأيام المتشابهة بالوجع.

لأنها أيام منسوخة عن ذاكرة جميلة مضت، عن بحبوحة صارت أملاً وأمنية، عن دفء ينتظر الإفراج عنه في دائرة، عن سائل أخضر أو أحمر صار (شيكاً) أو وثيقة، عن أراجيح قديمة صارت دوامة تثير الغثيان، عن فرح يتشابه مع فرح منسوخ أو هلامي، عن أطفال صاروا شيوخاً... نحن.. من شدة التذكر والأمنيات.
يأتي العيد على عكازتين وساقين من خشب، متثاقلاً يحدوه الأمل باستراحة صغيرة، أو ليستظل في قيلولة شجرة (كينا) قديمة بجوار النهر، هناك كمان يمشي على قدمين من لحم ودم، ويقفز على عربة (الفول)، ويشرب من مرقة (البليلة) وينفخ (بالون) الفرح، ويدخل في هلع عتمة (صندوق الدنيا)، ويركب حصان العيد، وقطاره، وأرجوحة تدور في سكر وخفقة قلب.. هناك عندما كان العيد ولداً صغيراً.

أربعون عاماً مرت على عيدي، أربعون صيفاً وخريفاً، شتاءً وربيعاً، أربعون موالاً وأغنية، أربعون عيداً مرت على أيامي، منذ أن كان العيد صغيراً بوسادة بيضاء وباردة، وبنطال جديد من سوق الحميدية، وكنزة أو قميص من باب الجابية، حتى صار بشعر أشيب ودفتر ذكريات عن الأمل والنسيان.
كان العيد يمر من أبواب شارع الثورة و(البحصة) وصولاً إلى (برزة البلد)، وينام في ساحة العيد، ويغفو على أناشيد الصغار وضحكاتهم، ثم يصحو على صوت القروش المتلاطمة في الجيوب الصغيرة، ثم يغفو على عودتهم معفرين من نهار طويل بصوت مبحوح وأياد معجونة (بغزل البنات)، وعيون لامعة من الفرح.
كان العيد مهمة لا تستحق العناء، وأياماً لا تخالطها الهموم، آباء ينتظرون صباح أطفالهم، وقبلات شفاههم على الأيادي المتعبة، والأمهات يعدّن السراويل الجديدة والقمصان اللامعة لصرخة طفل بعد صلاة العيد، لم تكن أياماً بلا روح، ولم تكن ساعات بانتظار وداع الأيام الطويلة، ولم تكن كلمة (العيد) تعني إلا نفسها، لم تكن بالبال مرادفات محزنة... العيد ليس استنزافاً للروح قبل الجيب... العيد ليس أوراقاً يمكن أن تكفي أولا.. العيد كان.. صباحاً دائماً وأرجوحة من غناء.

يأتي العيد بعد قليل.. بهواجس من تعب.. بأولويات ليست كهدايا العيد أو ما يجعل (الريق) حلواً.. أيهما نرتب في دفتر يومياتنا المملوء هماً ومسؤوليات.. على أبواب العيد ثمة أمنيات كثيرة لن تتحقق.
كيف سنملأ خزان وقود الشتاء، ومصاريف المدرسة، والمونة الناقصة، ومن سيسدد فواتير الماء والكهرباء والهاتف.. كيف سنشتري الفرح للأجساد الصغيرة، والهدايا للأخوات المتزوجات، وأضحية العيد التي لم تزر بيتنا من أكثر من عقد.. والأرحام التي تنتظر زياراتنا محملين ولو بعلبة (حلوى) شعبية، والأخوة الذين سيجتمعون للغداء عند أمهم كإجازة صغيرة من عناء الزوجة.

لن تصرف الحكومة (شيك الدعم) لأجل، والراتب المحدود بالكاد يسد فراغاً واحداً في ثقوب أعمارنا، والمدخرات في دفتر يومياتنا تساوي الصفر، والدائنون على الأبواب، والسوق متوحش، والغلاء لا أحد يقدر على لجمه، وغول ما بعد العيد فاغر فاه لابتلاع الأمنيات.
أيها العيد القادم دون هوادة.. ما كانت ذكرياتنا المشتركة تصل بنا إلى الحزن، ما كنا بلا عهد معاً... فلماذا تهمس بنا كما كنت ونصحو وحدنا على آه طويلة وعميقة.
أيها العيد الذي تآلفنا معاً.. أربعون عاماً لا تتغيب عن موعدك.. وأربعون عاماً نمشي القهقرى.. ظهورنا إلى الوراء، ورؤوسنا واطئة من القسوة.. كبرنا لكننا أصغر من مقعد في أرجوحة، واقفين أمام عربة (الفول)، ووعاء (العرانيس) الكبير، تحت شجرة (الكينا)، قرب النهر الذي جف... جف تماماً مثلنا.

معلومات إضافية

العدد رقم:
430