نجوان عيسى نجوان عيسى

إعادة الاعتبار لمهنة المحاماة

تعد مهنة المحاماة على المستوى النظري، جناحاً من أجنحة العدالة وعموداً من أعمدة الحق، ذلك أن المهمة الأساسية للمحامي هي مساعدة القضاء في الوصول إلى الحقيقة، وفي تحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة للمتقاضين أمام المحاكم. ورغم ذلك تبدو مهنة المحاماة فاقدة لاعتبارها هذا في بلادنا، وتنتشر بين الناس الفكرة التي تنظر إلى المحامين بعين الريبة وعدم الثقة، بسبب انحراف الكثير من المحامين، وتورطهم في الفساد والتحايل على الموكلين وعلى نصوص القانون.

والحقيقة أن مهنة المحاماة لا تتمتع بسمعة جيدة لدى معظم الشعوب، ولعل ذلك راجع إلى طبيعة المهنة التي تجعل المحامين يمثلون مصالح متناقضة أمام القضاء، إلا أنه يبقى للمحاماة اعتبارها، وللمحامين حصانتهم ومكانتهم الرفيعة في أغلب المجتمعات. أما في بلادنا فتبدو الصورة مختلفة كلياً، لأنه إذا كانت سمعة المحامين السيئة على مستوى العالم، راجعة إلى استعمال المحامين لنصوص القانون بما يحقق مصالح موكليهم مهما تناقضت هذه المصالح، فإن السمعة السيئة لهم في بلادنا ناتجة عن تجاوزهم للقوانين وعدم التزامهم بها، مما أفقد هذه المهنة الجليلة احترامها، وجعلها مظهراً أساسياً من مظاهر الفساد والتردي الأخلاقي والاجتماعي، كما جعلها مظهراً من مظاهر فقدان الثقة بالقانون وسيادته، والقضاء ونزاهته، لذلك يمكن القول إن إعادة الاعتبار لهذه المهنة مهمة وطنية ملحة، وركن أساسي من أركان عملية الإصلاح الشامل المفترضة. وللقيام بهذه المهمة طرحت العديد من الحلول من قبيل إنشاء مؤسسة تمرين للمحامين الجدد، أو إنشاء مؤسسة عقابية مستقلة للمحامين، وتطبيق شروط حازمة للانتساب تستبعد المشبوهين من هذه المهنة.

إن نقابة المحامين هي الجهة التي تناط بها مهمة إعداد المحامين والإشراف على عملهم والرقابة عليه، ومحاسبتهم إن لزم الأمر. بمعنى أن المطالبة بإيجاد مؤسسات بديلة للقيام بهذه المهمة، تعني تجاهل دور النقابة وطبيعة عملها. وإذا كان المقصود هو أن تكون هذه المؤسسات تابعة للنقابة، فإن هذا لا يضيف جديداً إلى الوضع الراهن، لأن الإشراف على تمرين المحامين، ومعاقبتهم، واستبعاد المشبوهين هو من مهمات النقابة الأساسية، ومن الواجبات التي يفرضها عليها نظامها الداخلي وقانون تنظيم مهنة المحاماة. ولكن الأهم أن هذه الحلول والاقتراحات تتجاهل جذر المشكلة، وتهتم بمعالجة نتائجها ومظاهرها، لأن الفساد الذي يتهم المحامون به، هو في حقيقته امتداد للفساد في المؤسسة القضائية، ذلك أن قدرتهم على التحايل على القانون، واستعمال مهنتهم كوسيلة لتحقيق أكبر قدر ممكن من الكسب فقط، دون الاهتمام بالعدالة والبحث عن الحقيقة، ناتج عن المساحات المفتوحة أمامهم في هذا الاتجاه، وناتج عن فساد قسم من القضاة والموظفين العدليين، الذي يفتحون الأبواب مشرعة أمام بعض المحامين للتجاوز على القانون، والاتجار بالعدالة. وفضلاً عن ذلك، فإنه كثيراً ما يكون المحامي عاجزاً عن تحصيل حقوق موكليه، دون استخدام آليات الفساد والتورط في لعبته، وهذا يفرض عليه سلوك طرق غير شرعية، وغير منضبطة لتمثيل مصالح الموكلين أمام القضاء.

وهكذا، فحتى لو تمكنا من بناء مؤسسات جديدة لإعداد المحامين والرقابة عليهم، وهي المهمة التي يفترض أن تقوم بها نقابة المحامين كما قلنا، فإن المشكلة لا يمكن أن تحل دون حل المشكلة في المكان الذي يمارس فيه المحامون عملهم، وأعني ساحات القصور العدلية، لأن إغلاق منافذ الفساد في وجه المحامين كفيل بتقويمهم، ورفع سوية عملهم وأدائهم القانوني، ذلك أنهم عندما لا يجدون طريقاً لأداء مهمتهم في الدفاع عن مصالح موكليهم كما يجب، سوى القانون ونصوصه، سيكونون مضطرين لأداء مهمتهم بمهنية عالية، وبمسؤولية كبيرة.

عندما يكون المحامي واثقاً أن سلوك القنوات الشرعية هو وحده الذي سيمكنه من الدفاع عن مصالح موكليه، فإنه سيسلكها بآليات القانون نفسه، وسيعمل دائماً على رفع سويته الحقوقية، وتطوير أدائه القانوني. وعندما يلتقي ذلك مع قوة السلطة القضائية واستقلالها، ونضوج نصوص القانون وتطورها الدائم، فلا شك أنه سيعود للمحاماة وجهها الأصيل، بوصفها رديف السلطة القضائية ومساعدها الأبرز في تحصين سيادة القانون والدفاع عن العدالة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
430