ترحين: هدمٌ وتشريد وترحيل.. مأساة تتقاسمها عشرات العائلات
لا يقطن في قرية ترحين، التابعة لمنطقة الباب شمال حلب أكثر من عشر عائلات من الفلاحين الفقراء كانت قد استفادت من قانون الإصلاح الزراعي فاستملكت حوالي السبعين هكتاراً من الأراضي فيما احتفظ المالك الأصلي سليل العائلة الإقطاعية المعروفة في تلك المنطقة بالجزء الأكبر من أراضيها(حوالي مائتي هكتار).
وقد كانت العلاقة ما بين المالك وبين أهالي ترحين علاقة يشوبها التوتر الدائم، خاصةً أن المالك الكبير لم يأل جهدأً في مضايقة الأهالي وحملهم على بيع أراضيهم ومحاولاته عبر صلاته النافذة إبقاء القرية في واقعها الخدمي المتخلف كمنع حفر الآبار وبناء المدارس والقيام بالتوسع السكاني بالرغم من حصول الأهالي على رخص بناء. كل ذلك كي يجبر سكان القرية على بيعه أراضيهم. (وقد نشرت جريدة «نضال الشعب» سلسلة تحقيقات تتعلق بهذه القضية).
عائلات تحت الشوادر
كان فلاحو القرية قد تقدموا بعدة شكاوى إلى العديد من الجهات الرسمية أملين في تحسن وضع قريتهم البائس، لم تلق استجابة من المعنيين وبالرغم من تفاقم الحال سوءاً زاد من الضغطه على القاطنين وذلك عبر مديرية الزراعة متهماً إياهم بارتكاب تجاوزات وتعديات على الأراضي التابعة لأملاك الدولة، ومطالباً بإزالتها وبتاريخ1/11/1998 وجه المحافظ(محافظ حلب) إلى مديرية الزراعة والإصلاح الزراعي كتابا يطلب فيه إزالة التجاوزات بسرعة.
وبعد عشرة أيام من صدور الكتاب قام المحافظ بتوجيه كتاب آخر يطلب فيه «هدم الأبنية المشادة على أملاك الدولة».
رفض الأهالي إخلاء منازلهم فقامت بلدية الباب باستخدام البلدوزر بمساندة قوات حفظ النظام بهدم سبعة منازل على ما فيها، بعد أن أخرج ساكنوها منها عنوة ،فنزح بعض أصحاب المنازل إلى القرى المجاورة فيما بقي الآخرون في القرية ناصبين «الشوادر» فوق ركام منازلهم.
بعد حوالي الشهر عادت حملة الهدم للمرة الثانية، وعادت مأساة القرية تتكرر، ومن ثم أتت حملة هدم جديدة بعد عشرة أيام بحيث لم يبق من القرية إلا أطلالها وبعض الأهالي نصب خياماً في العراء وأقام فيها.
قتل و اعتقالات
بتاريخ 16/12/1999عمد شخصان من قرية ترحين، إثر الضغط الذي تعرض له فلاحو القرية، إلى قتل (أمين يكن) لتبدأ سلسلة جديدة من المآسي كان على أهالي القرية والقرى المجاورة أن يتحملوا تبعاتها على الرغم من أن القاتلين معروفان لدى الجميع (أحدهما قتل برصاص الأمن الجنائي أثناء ملاحقته، والثاني وجد مشنوقاً في زنزانته وسجلت وفاته انتحاراً). فبدأت عمليات التوقيف و زاد عدد الموقوفين عن مائة شخص من الرجال والنساء من أهالي ترحين والقرى المجاورة بالرغم من عدم صدور مذكرات من النيابة العامة تأمر بتوقيفهم ووجه إلى الجميع تهمة التحريض على القتل. وقد بقي من الموقوفين حتى هذه اللحظة 25 رجلا وامرأة واحدة مع استمرار توقيف أحدهم إلى الآن بقرار عرفي رغم إحالتهم جميعا إلى محكمة الجنايات.
بعد خمسة أيام من حادثة القتل صدر الكتاب رقم499/2 إلى مديرية الإصلاح الزراعي يطلب فيها أن تتم نقل ملكية عائلات القرية من الأراضي إلى أماكن بعيدة عن القرية وخارج المنطقة وبعد أيام من صدور الكتاب بدأت المرحلة الأخيرة من الهدم ،سويت فيها منازل القرية بالأرض كما ردمت آبار القرية مع مضخاتها ونزح ما تبقى من الأهالي.وفي الوقت نفسه طوقت الشرطة وعناصر الجنائية قرية زمكة المجاورة لترحين ومنعت الأهالي من رعي القطعان وزراعة المحاصيل مما تسبب في نفوق معظم الماشية كما تمت مصادرة ثلاثة جرارات عائدة للفلاحين دونما مبرر.
نزع الملكية جبرا
وبتاريخ11/10/2001 وجه وزير الزراعة والإصلاح الزراعي كتاباً تحت رقم 5819 عن طريق رئاسة مجلس الوزراء إلى الأمين القطري المساعد يقول في جزء منه: «أما نقل الملكية الخاصة للأراضي التابعة لآل حمشو والجراح إلى أماكن بعيدة خارج القرية فيتطلب موافقتكم... يمكن معالجة وضع هذه الأراضي من خلال اللجوء إلى نزع ملكيتها جبراً عن طريق استملاكها أو مصادرتها..» علماً أنه لا توجد أحكام قانونية تجيز نزع الملكية ومصادرتها جبراً!
وقد لجأت المحافظة فعلاً إلى عملية نقل الملكية إلى خارج القرية أما الأراضي الخاصة والتي رفض أصحابها مبادلتها فقد تم نزع ملكيتها منهم جبراً.
الشكاوى من جديد
توجه الموقوفون ومحاموهم بعدة رسائل تطلب النظر بأمرهم، وجهت إحداها إلى القصر الجمهوري وأخرى إلى فرع حزب البعث في حلب، طالبين فيها إعادة الأهالي إلى قريتهم والسماح لهم ببناء المنازل المهدمة كما طالبوا بتشكيل لجنة قضائية محايدة ونزيهة للتحقيق في القضية بعد أن تم ما تم.
تضمنت الشكاوى أيضاً مطالب أهالي قرية زمكة المجاورة لقرية ترحين والتي بدأت أعمال الهدم والترحيل فيها على أثر ما جرى في ترحين بالرغم من أن عقاراتها تتبع للملكية الخاصة ولا علاقة لها بما جرى في القرية الأخيرة. وتم توقيع مذكرة من الأهالي موجهة إلى رئيس مجلس الوزراء لإيقاف الهدم فوعد وزير الداخلية بالإيعاز مباشرة لإيقافه.
هدم وهدم..
مع ذلك استمر الهدم في زمكة ونزح أهالي القرية منها وزرعت القرية بالأشجار الحراجية على أنقاض البيوت كي لا يتجرأ أحد من الأهالي على قلع الأشجار والعودة إلى القرية (فهنالك مرسوم جمهوري يمنع قلع الأشجار الحراجية تحديداً).
قام أهالي ترحين برفع دعوى قضائية امام القضاء الإداري بتاريخ 30/4/2001 على كل من رئاسة الوزراء ووزير الزراعة ومحافظ حلب فرفضت المحكمة دعوى الأهالي.
الآن
مئات من سكان القريتين رحلوا عن منازلهم عنوة ودون تعويض، كما حرموا من مصادر رزقهم الوحيدة وتلفت أملاك لهم وصودرت الأخرى وردمت أبار لهم وأشجار زيتون ولوز وكرمة يقدر عددها بعشرة آلاف شجرة نتيجة خطأ يتحمله المسؤولون بالدرجة الأولى، فلو كانوا قد اخذوا بعين الاعتبار شكاوى الأهالي ولو لم يصعدوا الموقف إلى هذا الحد، لما تشردت عائلات وسالت دماء.