لماذا تُعالج الأزمات المستعصية بالحلول المؤقتة؟!

تميزت دمشق أقدم عاصمة مأهولة في العالم إضافة إلى جبل قاسيون الذي يحضنها حضن العاشق بمعشوقة بمعلم هام هو نهر بردى  الذي يتدفق من منبعه في سهل الزبداني على سلسلة الجبال السورية شمال غرب دمشق ويصب في بحيرة العتيبة جنوب شرق مدينة دمشق، ماراً بمدينة دمشق القديمة والغوطة ليصب في نهاية المطاف في بحيرة العتيبة 40 كم شرق دمشق، وتعتبر غوطة دمشق التي كانت تحيط بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم من المعالم المهمة في دمشق أيضاً.

هذه المدينة الرائعة التي تغنى في حسنها وتاريخها الشعراء من أحمد شوقي وسعيد عقل ونزار قباني  وغيرهم الكثيرين  تعاني من مشاكل أضحت بفعل إهمالها من الحكومات المتعاقبة مستعصية  على الحل، تكلمنا سابقا عن بعضها وها نحن نوضح أهم هذه المشكلات ألا وهي أزمة مياه الشرب .
منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي بدأ عدد سكانها بالازدياد من نصف مليون إلى ما يربو عن سبعة ملايين حاليا، وكان منبعا نهر بردى يمدان المدينة بما تحتاجه من مياه الشرب وهما نبع بردى ونبع عين الفيجة، وينبع بردى من بحيرة تقع في جنوب غرب سهل الزبداني وتتغذى من ذوبان ثلوج أعالي جبال الزبداني، حيث ينبع ويسير النهر ويتابع سيره لترفده المياه التي تنبع من نبع عين الفيجة الذي يضاعف في غزارة وحجم مياهه، وهو نبع غزير إذ تبلغ غزارته في فصل الربيع حوالي 30 متراً مكعباً في الثانية بالإضافة إلى نقاوة المياه فقد أثبتت الفحوص أن ماء الفيجة من أنقى المياه على مستوى العالم والصخور الكلسية التي تختزن هذه المياه بعيدة عن مصادر التلوث بالإضافة إلى خلوّ المياه من الطفيليات والجراثيم.
ولكن بردى بمنبعيه وبسبب الزيادة الهائلة بعدد سكان دمشق وبسبب سنوات الجفاف التي تعاقبت لم يعد قادرا على تلبية حاجات المدينة وضواحيها بمياه الشرب، مما أدى إلى تقنين المياه ,وقطعها  لمدة  17ساعة يومياً لمواجهة النقص الحاصل في كمية المياه المطلوبة، أما في الريف، فهي تنقطع لأيام متواصلة أحيانا كثيرة، وتقدر حاجة دمشق ما يقارب 600 ألف متر مكعب المتوفر منها حوالي 340 ألف، وتساهم عوامل عدة في اتساع رقعة المشكلة، عبر هدر المياه، وعلى رأسها وجود المسابح والاستخدام الجائر للمياه في ري الحدائق وتنظيف الشوارع وغسيل السيارات.
تصل نسبة الهدر هذه إلى  20% تقريباً، وقد تفاقمت المشكلة لدرجة أن نبع بردى جفت بحيرته التي كانت تتشكل من المياه الفائضة منه نهائيا منذ ثلاث سنوات تقريبا، كما أن غزارة نبع الفيجة بدورها انخفضت وتنخفض باستمرار من 30 م3 في الربيع لتصل إلى 5-7 م3 في الصيف، الأمر الذي أدى ويؤدي إلى توقف جريان النهر بل تحول النهر إلى قناة مكشوفة للمياه الأسنة التي تصب في مجراه من المزارع المبثوثة على طول ضفتيه، وبعد ما كان النهر يعج بالأسماك  أصبح خاويا منها بل حتى الجرذان  أضحت تعاني من العيش على ضفافه بفعل تلوث مياهه ولونها الأسود، أما  بحيرة العتيبة التي كانت مصبا له فقد جفت هي الأخرى وصار الفلاحون يستفيدون من أرضها في الزراعة والسكن.
أمام هذا الواقع كان جديراً بالحكومات المتعاقبة أن تسعى لحل هذه المشكلة حلا جذرياً وذلك بالبحث عن مصادر مياه إضافية لتلبية طلب سكان دمشق المتزايد على مياه الشرب مما دفع المسؤولين إلى استسهال  حلول مؤقتة أهمها حفر آبار ارتوازية في سهل الزبداني الذي يشكل حوضا له، وهذا الحل لم يعد مجدياً خصوصا إذا استمرت موجة الجفاف سنوات أخرى، والحل الأمثل يأتي من خلال جر مياه الشرب من مناطق أخرى تتوفر فيها من خارج حوض دمشق، ولا شك أن جر مياه الساحل الفائضة عن حاجته والتي تصب في البحر وتشكل هدرا غير مقبول لبلد يعاني من أزمة مياه شرب خانقة في أغلب مدنه وقراه يمكن أن يكون حلا جذريا لهذه المشكلة، إن الواقع المعاش يحذرنا قبل أن «تقع الفأس بالرأس» وتصبح مدينة دمشق مدينة عطشى بكل ما في هذه الكلمة من معنى.