رأس القطاع العام مطلوب للمقصلة د. رئيف مهنا وراء القضبان وفر على الخزينة 13 مليون دولار فأحيل للقضاء!
ماانفكت قوى النهب و الفساد تمزق أوردة الوطن منذ عدة عقود، وتسلب خيراته وتبيح ثرواته، لتكدسها أموالاً (بالعملة الصعبة) في البنوك الخارجية. وإذا كان هدفها فيما مضى، الإثراء السريع وكنز (الدولارات) بأرصدة ضخمة على حساب الخزينة العامة ولقمة الجماهير الكادحة، فإنها الآن، ومع تغير الاستراتيجيات والأولويات، تسعى مع حلفائها الداخليين (قوى السوق) والخارجيين (قوى العولمة) إلى ابتلاع الجمل بماحمل، من خلال تقويض الاقتصاد الوطني، وإنزال الضربات المتلاحقة بالقطاع العام، وتوجيه الحراب إلى صدور كل من يحاول التصدي لها وإعاقتها عن تنفيذ مآربها.
يتزامن كل ذلك مع تزايد الأخطار على شعوب المنطقة، وارتفاع وتائر التهديدات الأمريكية ـ الصهيونية لسورية، وخروج منظري ورجالات «قوى السوق» من جحورهم، ليعلنوا على الملأ برنامجهم «العلاجي الناجع» للأزمات التي تعاني منها البلاد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
وإذا كانت عناوين هذا البرنامج هي: الإذعان (سياسياً)، والخصخصة والانفتاح (اقتصادياً)، والديمقراطية على النمط الأمريكي (اجتماعيا)، فإلى أين يريد هؤلاء أن يسيروا بالبلاد؟
قضية ساخنة
اصدرت محكمة الأمن الاقتصادي الأولى بتاريخ 16/8/2003 قراراً تم بموجبه توقيف الدكتور المهندس رئيف مهنا، مدير عام الشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية، بتهمة «التقصير في تحقيق الشروط المناسبة للتعاقد، وتزويد السلطات بمعلومات غير صحيحة» أما الجهة المدعية فهي الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش.
القضية موضوع الدعوى: هي الإشكالات المثارة حول مناقصة تنفيذ مشروع خط الجر الثالث لإرواء مدينة اللاذقية، وقرى الشريط الساحلي من مياه نبع السن، حتى عام 2020.
بوصلة مكافحة الفساد
هناك الكثير من الأسئلة يطرحها الناس وفي غمرة الحديث عن محاربة الفساد والمفسدين، من هم القيمون على هذا الأمر؟ ماهي صلاحياتهم؟ ما مدى نزاهتهم؟ والأهم ماهي اعتباراتهم ومرجعياتهم؟ خصوصاً بعد أن بتنا نقرأ في الصحف الرسمية عن أسماء، وجهت لها أصابع الاتهام، على الرغم من كونها خارج مراتع الفساد، واتسامها بالكفاءة، ونظافة الكف، والتوجهات الوطنية الصرفة. وإذا كانت هذه الاتهامات لاتزال مجرد اتهامات، فإننا نرجو ألا تتحول في المستقبل إلى إدانات إلا إذا اثبت القضاء ذلك بالأدلة والبينات الدامغة.
قضية قديمة بعناوين ومدلولات جديدة
استنادا ًإلى دراسة أعدتها وزارة الإسكان والمرافق عام 1985 لمشروع خط الجر الثالث لإرواء مدينة اللاذقية وقراها من مياه نبع السن، والتي تهدف إلى مد خطين من الفونت المرن، الأول بقطر 1400 مم، والثاني بقطر 1200 مم، فقد تم تشكيل لجنة إنجاز برئاسة نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون الخدمات، وعضوية وزيرين ومحافظ، ومعاوني وزير، وأربعة مديرين عامين وبعض الفنيين. واعتمد التمويل لإنجاز المشروع من «البنك الإسلامي» الذي رصد مبلغ 9 ملايين دولار لهذا الغرض. وبناء عليه تم الإعلان عن مناقصة المشروع، ولكن عروض الأسعار كانت مرتفعة جداً، بلغ أقلها أكثر من 25 مليون دولار، ولذلك أحجمت لجنة الإنجاز عن قبول أي منها، بعد أن رأت فيها أسعاراً احتكارية، وطلبت من شركة الدراسات تقديم حلول بديلة، فاستجابت الشركة، وتقدمت بعدة حلول، أهمها استبدال الأقطار السابقة بقطر 1000 ملم من الفونت المرن، وذلك لكسر الاحتكار، وقد لقي هذا الحل قبولاً من لجنة الإنجاز، وأعلنت عن مناقصة جديدة، تقدم إليها عدد كبير من الشركات، ووفر العرض الفائز 13 مليون دولار.
شركة «أميرون» السعودية تطرح (البديل)
عندما حاولت لجنة الإنجاز البحث عن بدائل بعد المناقصة الأولى، كانت شركة «أميرون» السعودية التي تنتج القساطل البيتونية المسلحة بالفولاذ تسعى بطريقة أو بأخرى للظفر بغنيمة المشروع، فقدمت حلها البديل أي اعتماد القساطل البيتونية التي تنتجها بدلاً من الفونت المرن، ولكن هذا الاقتراح (الحل)، كان بحاجة إلى دراسة لتقويمه فنياً ومالياً، لذلك تمت إحالته بعد انتهاء المناقصة إلى شركة الدراسات للنظر فيه، وقد خلصت الشركة بعد دراسته إلى إمكانية استخدام الأنابيب المقترحة كبديل إضافي، بعد التفاوض مع شركة «أميرون»، لكن التفاوض لم يتم، ويبدو أن لجنة البدائل (التي شكلت بعد المناقصة الأولى)، أوصت بتصنيع هذه الأنابيب محلياً.
شركة «أميرون» تعترض
على الرغم من أن عرضها كان غير رسمي، ولم يستوف شروط التقدم لمناقصة، من إعلان طلب عروض، ودفتر شروط، وتأمينات..إلخ، إلا أن الشركة السعودية «أميرون» قدمت اعتراضاً إلى الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش!! والتي بدروها أحالته مباشرة إلى محكمة الأمن الاقتصادي بعد أن رفعت كتاباً إلى رئيس مجلس الوزراء، يتضمن اتهام مدير عام شركة الدراسات، ومدير مياه الشرب في الشركة نفسها، ومدير المشاريع المركزية في وزارة الإسكان، بتهمة التقصير في تحقيق الشروط المناسبة للتعاقد، وتزويد السلطات بمعلومات غير صحيحة.
أخذ ورد..
بتاريخ 18/2/1998، وجه رئيس مجلس الوزراء (في حينه) كتاباً إلى وزير العدل، يفيد بأن الإجراءات المذكورة، قد تمت بمعرفة لجنة الإنجاز ومتابعتها، وبعدم وجود أي تقصير، وأن المعنيين والفنيين في شركة الدراسات ووزارة الإسكان، قد قاموا بدور إيجابي في إيجاد البديل الاقتصادي للمشروع، والذي حقق وفراً
ملحوظاً للخزينة، يصل إلى 13 مليون دولار، وأن النتائج التي توصلت إليها لجنة الإنجاز كانت الأفضل، تبعاً للخيارات المعروضة.
طي ملف القضية مؤقتاً..
بعد الكتاب الذي وجهه رئيس مجلس الوزراء إلى وزير العدل، تم إغلاق الملف مؤقتاً، وبدا للجميع أن القضية انتهت عند هذا الحد، خاصة وأن كل الدلائل تشير إلى عدم تورط المدعى عليهم بما نسب إليهم من اتهامات. ولكن ما الذي حدث؟ وما الذي تغير؟ حتى عادت الدعوى لتتحرك من جديد؟
الرقابة من جديد...
في هذا العام، عادت الرقابة لتحرك القضية (بحيوية أكثر على ما يبدو) ورغم ثبات رئاسة مجلس الوزراء على موقفها السابق، والمؤيد لموقف المدعى عليهم، عادت القضية إلى الظهور، بتسارع أكبر هذه المرة، حيث تم توقيف الدكتور رئيف مهنا بعد مثوله أمام محكمة الأمن الاقتصادي الأولى، وتغيب المدعى عليهما الآخران المهندس محمد كشاوي، والدكتور اسماعيل السعيد. واستناداً إلى موقف رئيس مجلس الوزراء المبين في كتابه الموجه إلى وزير العدل بتاريخ 9/6/2003 والمؤكد على عدم وجود اي ضرر مادي لحق بالخزينة نتيجة للمشروع المذكور، وبالتالي عدم وجود أي تقصير أو معلومات غير صحيحة من المدعى عليهم، فقد وجه السيد أدهم وانلي وزير الإسكان والمرافق السابق كتاباً إلى إدارة قضايا الدولة ـ فرع دمشق بتاريخ 10/9/2003، ألغى من خلاله إدعاء الوزارة على هؤلاء مؤكداً من جديد، أنهم ساهموا في إيجاد بديل اقتصادي، حقق وفراً ملحوظاً على الخزينة العامة!!
رأي الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش
بتاريخ 2/2/1998، تقدمت الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش بكتاب إلى السيد رئيس مجلس الوزراء، يتضمن عرضاً للموضوع (المشكلة)، ويؤكد على مجموعة من النقاط ابرزها:
■ إن عرض الشركة السعودية «أميرون» ظل حبيساً في أدراج وزارة الإسكان لمدة ستة أشهر دون أن يدرس أو يؤخذ بعين الاعتبار. (ففاته الوقت).
■ عدم دقة الدراسة التي أنجزتها الشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية للعرض السعودي فنياً ومالياً.
■ تحميل شركة الدراسات مسؤولية إعطاء لجنة الإنجاز ورئيسها صورة غير صحيحة عن العرض السعودي، مما أدى إلى استبعاده.
وبناء على هذه المرتكزات، حمل الكتاب مسؤولية ما حدث (التقصير) للسادة الدكتور المهندس رئيف مهنا مدير شركة الدراسات، والدكتور اسماعيل السعيد مدير المشاريع المركزي لدى وزراة الإسكان والمرافق، والمهندس محمد كشاوي مدير مياه الشرب لدى الشركة العامة للدراسات والاستشارات الفنية. وهذه المسؤولية تتوزع على الشكل التالي:
مسؤولية المهندس محمد كشاوي:
1) عدم تقديم دراسة أولية كاملة لخط 1000 مم.
2) عدم التدقيق في دفتر الشروط الفنية بدرجة كاملة.
3) الإصرار على تركيب (بوستر) على خط الأترنيت المقترح رغم تحفظ وزارة الإسكان، ومؤسسة مياه اللاذقية، ولجنة الخبرة الفنية (المعتمدة من قبل بعثة التفتيش).
4) عدم تقديم مقارنة مالية دقيقة لعرض شركة «أميرون» مع الفونت المرن.
مسؤولية الدكتور المهندس رئيف مهنا:
1) موافقته على رأي المهندس محمد كشاوي.
2) مشاركته في إجراء التقييم المالي غير الدقيق للعرض السعودي.
3) عدم وضع أسس دقيقة للدراسات الاقتصادية لمختلف المشاريع؟!!
مسؤولية الدكتور المهندس اسماعيل السعيد:
■ عدم إبداء الرأي بشكل سريع بعرض شركة «أميرون»!! مما أدى إلى إبعاده عن المنافسة وتفويت الفرصة على الشركة و (علينا).
■ اشتراكه في التقييم (الخاطئ( للقساطل السعودية )البيتونية المسلحة بإسطوانة فولاذية) المنافسة لقساطل الفونت المرن التي اعتمدت.
وفي المحصلة فإن كتاب الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، اتهم الثلاثة آنفي الذكر (بالتقصير) و (تزويد السلطات بمعلومات غير صحيحة) و (إضاعة) فرصة كبيرة للتعاقد بأفضل الشروط، و(عرقلة) إنشاء معمل للقساطل البيتوينة المسلحة بالفولاذ، كانت شركة «أميرون» تنوي إقامته في سورية!!.
المهندس محمد كشاوي يرد:
في كتاب وجهه إلى السيد رئيس مجلس الوزراء، طعن السيد محمد كشاوي، مدير مياه الشرب في شركة الدراسات بالمعلومات والأرقام والاستنتاجات والاتهامات الواردة في كتاب هيئة الرقابة والتفتيش وأشار إلى النقاط التالية (بالأدلة والبراهين):
1) العرض المقدم من شركة أميرون هو 19.4 مليون دولار وليس 15 مليون دولار كما (افترض) التقرير.
2) علامة الجودة للأنابيب البيتونية بالنسبة للفونت المرن من 30 ـ 70 % وهذه أيضاً أغفلها التقرير، وبنى كل حسابته دون أن يأخذ هذا التفاوت بعين الاعتبار.
3) إن شركة «أميرون»السعودية، لم تظهر أية جدية في إنشاء معمل للقساطل البيتونية في سورية، وكانت تنوي جلب القساطل من السعودية في حال فوز عرضها.
4) يغالط كتاب الرقابة كثيراً بمسألة العرض السعودي، متناسياً أن ما قدم أساساً لم يكن عرضاً رسمياً، بناء على دفتر شروط وإعلان طلب عروض أو مناقصة، وكان أقرب إلى نشرة تعريف أو دعاية!!!
وينهي المهندس محمد كشاوي كتابه بالتأكيد على أن الموضوع قديم، وقد كان منتهياً عند قاضي التحقيق قبل أكثر من خمس سنوات، إلى أن تم تحريكه حالياً بهدف الاستقصاد كيداً من بعض الأشخاص!!
رأي فني في القضية
يرى الفنيون أن أنابيب الفونت المرن بمختلف أقطارها، أفضل بكثير من الأنابيب الاسمنتية، وهي أوفر اقتصادياً، لأن عمرها الافتراضي أطول، وهي (بحكم المواد الداخلة فيها) أكثر قوة ومتانة وتحملاً، بالإضافة إلى سهولة تركيبها وصيانتها وتشغيلها، وقد اعتمدت في معظم دول العالم نظراً لهذه المزايا. أما الأنابيب البيتونية فهي أقل جودة وتحملاً في الأحوال الطبيعية، فكيف إذا تم شحنها من بلد إلى بلد، وتعريضها للتصدعات والتشققات؟ كما كان سيحدث لو أنها اعتمدت في تنفيذ المشروع آنف الذكر.
نعتقد أن هذه القضية وما سبقها، وما سوف يلي من قضايا جديدة في الفترة القصيرة القادمة، سيكون انعكاساً مأساوياً للاختلافات الجدية في الرؤى الاقتصادية والسياسية والفكرية، والتوجهات الاستراتيجية المتناقضة، للمسؤولين في القطاع العام. ونحن إذ لا نخفي وقوفنا إلى جانب المدافعين (الشرفاء) عن هذا القطاع، وإصرارنا على أنه القطاع الأكثر أهمية في عملية التنمية، والأكثر صلابة وصموداً في وجه من يريدون إفقار الوطن وتركيعه، فإننا لا نتمنى ونرفض رفضاً قاطعاً، أن تتحول أروقة القضاء إلى مسارح لتصفية الحسابات والدعاوى الكيدية، واثقين من قدرة القضاء على إحقاق الحق، والمساهمة في حسم هذه النزاعات لصالح الوطن وجماهيره الكادحة.
● رئيف مهنا في سطور ●
■ إجازة في هندسة العمارة ـ جامعة القاهرة 1963.
■ حائز على الدكتوارة من جامعة مرسيليا 1973.
■ أستاذ في جامعة دمشق ـ كلية الهندسى المعمارية.
■ مدير شركة الدراسات بين عامي 1989 ـ 2002.
■ حائز على شهادة الأغا خان للعمارة عام 1992.
■ حائز على الجائزة الذهبية عام 1988.
■ حائز على جائزة الأمم المتحدة للسكن العشوائي عان 1989.
■ إعداد: جهاد أسعد محمد