مؤتمر التخطيط والتنمية: إعادة الاعتبار لأهمية التخطيط ومرافعة للدفاع عن دور الدولة.. «(جماعتنا) رأوا النفق في نهاية الضوء»!.
■ التخطيط خير من التخبيط..
■ د. سعد الحافظ: «في مصر، يذهب الفرعون ليأتي فرعون آخر يلغي إنجازات السابق»!
■ «وزارة المالية.. صادرت القطاع العام»!..
■ «الخطة التاسعة أشبه بوثيقة دبلوماسية»!.
■ «كلما اتسعت شمولية التخطيط، اتسعت اللامركزية.. وليس العكس»!..
■ «نجح مهاتير محمد في رفض وَصْفات الصندوق الدولي»
«مؤتمر التنمية والتخطيط في ظل المتغيرات العالمية والإقليمية» كان العنوان العريض لسلسلة من الجلسات والندوات أعد لها المركز العربي للدراسات الاستراتيجية بالتعاون مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة وكلية الاقتصاد في جامعة دمشق. وعلى الرغم من الفوبيا التي تصيب الإعلام السوري أمام المؤتمرات الجادة (مع أن رئيس الوزراء هو من افتتحه شخصياً) إلا أن المهتمين بواقع حال اقتصادات الدول النامية والاقتصاد السوري تحديداً كانوا على مقاعد مدرج الاجتماعات في نقابة المعلمين ليشاركوا مجموعة من الباحثين الاقتصاديين العرب- من سورية ومصر وتونس ولبنان والأردن - أعمال المؤتمر الذي انعقد في 22-23/10/ 2003.
الحمش: ما الذي تغير؟
الجلسة الأولى التي ترأسها د. منذر الشرع من جامعة اليرموك الأردنية وحاضر فيها د.منير الحمش (المدير العام للمركز العربي للدراسات الاستراتيجية) كانت لمناقشة «التغيرات الاقتصادية العالمية والإقليمية» ليقدم بدوره تحليلاً مالياً نقدياً و رؤية اقتصادية تاريخية لمفاصل هذه التغيرات التي انقسم العالم معها من وجهة نظر الليبرالية الجديدة بمؤسساتها الدولية الثلاث (البنك والصندوق الدوليين ومنظمة التجارة العالمية) إلى مناطق في العالم تجذرت فيها العولمة (مناطق النواة الفاعلة) ومناطق سميت (دول الثغرة) لم تتجذر فيها بعد.كما أكد الحمش على ثلاثة وجوه للعولمة «الأول هو إدارة الرأسمالية العالمية لأزمتها الراهنة،والثاني هيمنة الولايات المتحدة على العالم» أما الثالث فهو ما استنتج الحمش أنه «عسكرة العولمة» المتجلية باستراتيجية الأمن القومي الأمريكي فيما بعد11 أيلول كان التعقيب من الدكتور الياس نجمة مؤكداً تأكيدات الحمش نفسها ومضيفاً عليها. «العولمة ليست أيديولوجيا، العولمة بنت الممارسة.. والبعد العسكري هو الذي كان حاسماً حتى في المفاوضات التجارية الأمريكية.. أما عن دور الدولة فقد تراجع ايديولوجياً فقط، بالنسبة للممارسة ومن حيث الواقع يزداد دور الدولة في كل المجالات في الدول الأوروبية وأمريكا في حين يطالبوننا بتخفيض هذا الدور» .
التعددية ليست ابتكاراً..
الجلسة الثانية كانت سورية- مصرية، ترأسها الرئيس السابق لهيئة تخطيط الدولة د. توفيق اسماعيل وحاضر فيها كل من الدكتور موسى الضرير من جامعة دمشق، والدكتور سعد الحافظ من معهد التخطيط القومي بالقاهرة. ومن ثم عقب د. عصام خوري على محاضرة الضرير كما عقب اللبناني د. ألبير داغر (الجامعة اللبنانية) على محاضرة الحافظ.
الدكتور سعد الحافظ قدم دراسة جادة وكثيفة عن التجربة المصرية في التخطيط غلب عليها الطابع التقني في تقسيم مواضيعها لاجئاً فيها إلى التقسيم التنظيمي لمؤسسات التخطيط في مصر وقد حاول في دراسته هذه إعادة الاعتبار لمفهوم التخطيط الاقتصادي وطرح من وجهة نظره متطلبات بناء نظام متكامل للتخطيط التأشيري (غير المباشر) للاقتصادات النامية في ظل آليات السوق دون أن يخفي انتقاداته للانفتاح المصري على اقتصاد السوق «ما زال لدينا مع الأسف في مصر عقدة فرعون،يذهب فرعون ليأتي فرعون آخر يلغي جميع إنجازات الفرعون السابق ويعتبر إلغاءه للإنجازات السابقة انتصارا».
أما ورقة الضرير فقد بحثت في التخطيط والتعددية الاقتصادية في سوريا كمنهج في التنمية، آتياً فيها على البنية الاقتصادية للاقتصاد السوري والتي تميزت «بسيطرة القطاعات الاقتصادية التقليدية وزيادة نسبة من يعملون بالقطاع الحرفي حيث أن 3 % فقط من الصناعات يعمل بها ما يزيد عن المائة عامل» وكذلك بعدم التغير في شكل التجارة رغم التغيرات العالمية، وقد انتقد الضرير التطور الذي حصل في التركيبة الاقتصادية إذ أنه «يفتقر إلى التوازن النوعي في مكوناته» كما قدم أرقاماً تشير ألى ارتفاع معدلات البطالة وغياب التوازن ما بين العرض والطلب وانخفاض انتشار ثقافة البحث العلمي في المؤسسات «4% فقط من المؤسسات الاقتصادية تقيم علاقات مع مراكز الأبحاث» وارتفاع نسبة عمالة الأطفال وزيادة العاملين في القطاع غير المنظم وارتفاع نسبة الأمية في صفوف العاملين «64 % من العمال أميون.. ونسبة البطالة المحددة بـ 9.5 % لا تمثل حجم البطالة الحقيقي التي تقدر بـ 20% ، كما أن 4% من العاملين في القطاع غير المنظم من الأطفال الذين بلغت نسبة المشتغلين منهم 17.8% من مجموع الأطفال» .
الدكتور عصام الخوري اتفق مع الضرير في كثير من القضايا التي طرحها إلا أنه أخذ عليه ازدحام ورقته بالمواضيع وتداخلها مع بعضها: «لو تناول جانباً واحداً من عملية التنمية لقدم لنا المزيد من التحليل.. » كما أن الخوري اختلف مع الضرير في ما طرحه الأخير بأن التعددية الاقتصادية أتت في الثمانينات بعد أن ارتأتها القيادة السياسية قائلاً: «التعددية الاقتصادية ليست فكرة مبتكرة، التعددية كانت موجودة من قبل، وبعد أن انفتحنا عليها بشكل رسمي لم نكامل بين القطاعات ونستثمرها بالشكل الأفضل إضافة إلى أن دور القطاع المشترك محدود.. والإنفاق الحكومي والاستثماري تضمن تاريخياً الكثير من الهدر ..القطاع العام خسّر ولم يخسر» وسجل الخوري اعتراضه على سياسة وزارة المالية الجبائية قائلاً: «القطاع العام مُصادَر ومقيد من قبل هذه الوزارة وكان على المحاضر أن يتعرض لهذه الناحية» .
خطة دبلوماسية:
المحاضرة الأخيرة في اليوم الأول كانت للباحث الاقتصادي عبد القادر النيال التي قدم فيها نقداً للخطة الخمسية التاسعة ومراجعة نقدية للخطط الخمسية السابقة،حيث رأى أن الخطة التاسعة هذه لم تشكل انعطافة حادة بالنسبة لبقية الخطط «فالغموض يكتنف الخطة من جوانب عديدة حتى ليخال المرء نفسه أمام وثيقة دبلوماسية وليس أمام خطة خماسية» وانتقد النيال الكثير من جوانب هذه الخطة: «إن ارتفاع معدل النمو السكاني هو الشماعة التي تعلق عليها البلدان النامية اختلالاتها الاقتصادية.. آليات السوق تلعب دوراً في الخطة التاسعة أكثر مما في الخطط السابقة، كما افتقدت الخطة إلى جداول للمشاريع الإنمائية.. ووجه الخلاف الوحيد فيما بينها وبين الخطط السابقة هو أنها أتاحت مشاركة أوسع للقطاع الخاص مشيراً إلى أن «دور القوى الفاعلة وشرائح المجتمع لم يكونا مؤثرين في وضع الخطة بالقدر الذي يعكس وزن هذه القوى وتأثير الخطة عليهم» نافياً القول الذي يزعم أن الخطة التاسعة تمثل أداة استشراف مستقبلية، ليختلف بقوله هذا مع المعقب د. توفيق اسماعيل المتحمس للخطة والذي لم يخف في مداخلته أن هناك من يحاول تعطيل دور الدولة التخطيطي والحد منه.
التنمية نوعية، النمو كمّي..
اليوم الثاني من الجلسات الاقتصادية كان مع محاضرة الدكتور صاموئيل عبود ( معهد التخطيط الاقتصادي والاجتماعي-دمشق) وتعقيب الدكتور قدري جميل (من نفس المعهد) حيث ترأس الجلسة الدكتور الياس نجمة (جامعة دمشق).
ورقة عبود «دعوة لتأسيس تخطيط إقليمي في سورية» بدأها بوجوب الالتزام بمبدأين في عملية التنمية المخططة: «الحرص على التوازنات والتناسبات المقررة بين مختلف فروع الاقتصاد الوطني من جهة، كما مراعاة التوازنات التنموية بين مختلف المناطق والأقاليم من جهة ثانية» ونتيجة للخروقات في هذه التوازنات في سورية فإن د.عبود يرى أن «التنمية لم تتم بشكل متوازن» وقد انعكس هذا التفاوت في التنمية واقعياً« على خط جغرافي استأثر بالتنمية،وهو خط يمتد من الشمال في حلب إلى الجنوب في دمشق ماراً بحماة وحمص وهو ما يمكن تسميته المحور الاقتصادي الفعال» وقد أدى ذلك إلى مركزة سكان سورية على هذا المحور(61%من السكان) فيما سمي في الثمانينات موجة الهجرة الداخلية الكبرى، مخلفاً اختلالاً عميقاً في تركيبة المدن وتشكيل أحزمة من السكن العشوائي حول مدن المحور.وقد طرح عبود اقتراحات عدة لتحديد كل من النطاقين الإقليمي والجغرافي للتخطيط الإقليمي ودعا إلى اللامركزية الاقتصادية «كبديل لسلبيات مركزية الخطة».
تعقيب الدكتور قدري جميل على الورقة الأخيرة كان بثلاث نقاط:
«هنالك مسلمة طرحها د. صامويل وهي مبدأ التوازن في التخطيط واستنتج اختلال التوازن، إذا اختل التوازن في التنمية هل تبقى التنمية تنمية؟ أنا أرجح أنها ستبقى نمواً لن يلبث أن يصل للاختناق. فالنمو الذي لا يتحول إلى تنمية يخاطر بأن يتحول إلى لا نمو لذا اقترح د. جميل إضافة مبدأ ثالث إلى المبدأين السابقين: انعكاس التوازن على مختلف الشرائح الاجتماعية أي على مستوى ونوعية معيشة الناس فالنمو أرقام كمية أما التنمية فنوعية».
محور موازي:
الإضافة الثانية التي قدمها د. قدري جميل كانت حول محور التنمية السابق «فهذا الشكل من التناقض بين الموارد البشرية والطبيعية داخل المحور، وعلى العكس خارجه، ستكون من الأسباب التي ستعطل التنمية على المحور ذاته» لذا لم يقترح تكسير المحور وانتقد معالجته من خلال الدوران حوله: «أقترح تطوير محور موازي هو محور شمال شرق-جنوب، بغرض إعادة التوازن وهو المحور المرشح لهذه المهمة وهو أحد البدائل الهامة».
أما عن دعوة د. صامويل للامركزية التخطيط فقد قال فيها د. جميل:
«المشكلة ليست بالمركزية أو عدمها، فهنالك دائماً علاقة متحركة بين المركزية واللامركزية، المشكلة هي بشمولية التخطيط ، وعلى عكس ما يبدو للوهلة الأولى ، كلما كانت قاعدة التخطيط أوسع زادت اللامركزية ..» مؤكداً أنه لا يمكن للتخطيط الإقليمي أن يسير دون إعادة الاعتبار لفكرة التخطيط نفسها.
في نهاية الضوء:
الجلسة الأخيرة كانت مع الدكتور محمود عبد الفضيل (جامعة القاهرة) معقباً عليها الباحث المصري شوقي جلال، متناولة التجارب الآسيوية في التخطيط والتنمية بعد أن تنقل د.فضيل في بلدان جنوب شرق آسيا ليخلص إلى نتائج قدمها في الورقة: «تم الترويج في الأدبيات النيوليبرالية أن التخطيط هو أساس البلوى وأن اقتصاد حرية السوق هو الذي أطلق اقتصادات الدول ورغم ذلك فإن الانطلاقة الآسيوية التي سماها البنك الدولي نفسه (المعجزة الآسيوية) لم تكن من صنع السوق، وقد وضعت دولهم خططاً ألزم القطاع الخاص على الالتزام بها، وآليات السوق كانت جزءاً منفذاً للخطة وليست قائدة لها ودون ذلك سيقع رجل الأعمال في خطأ وسيرتكب جرائم اقتصادية لأن ما يصح على مشروع واحد لا يصح بالضرورة على الاقتصاد الكلي.. ثبت فشل توصيات صندوق النقد الدولي في ماليزيا ونجح مهاتير محمد في رفضه لهذه التوصيات في بناء اقتصاد ماليزي رغم أن ماليزيا بامكاناتها لا تزيد عن امكانات أي دولة عربية».
وقد قدم الفضيل الأسباب التي أدت للنهضة الآسيوية «التضامن ما بين الدول الآسيوية وتحقيقها لنظرية الإوز الطائر التي تتضمن أربعة أسراب اقتصادية بقيادة اليابان وتطوير النظام التعليمي وتثوير التكنولوجيا التي كانت العمود الفقري للنهضة عندهم وقد صاحب ذلك إعادة توزيع الدخل على نحو أقل مركزة إضافة إلى ما يسمى مثلثات النمو وهي مناطق حدودية بين كل ثلاثة بلدان بينهم يقام فيها صناعات بتمويل مشترك» وقد علق الفضيل على اتفاقية الشراكة الأوروبية قائلاً: «قدرتنا على المساومة مع أوروبا تتوقف على قدرتنا على الانفتاح على الدول الآسيوية والاستفادة منها» مشيراً إلى الدور الذي أبرزته مؤخراً دول آسيان في إفشال مؤتمر كان كون ، أما آخر ما قاله الفضيل في المؤتمر فهو: «مع الأسف جماعتنا رأوا النفق في نهاية الضوء».
التخطيط خير من التخبيط:
«النمور الآسيوية ليست نموراً من ورق وهذه الدعاية عن النمور الورقية هي ترويج كاذب لإضعاف الشعوب وإخافتها وما زال الصراع على القرن قائماً بين أمريكا وآسيا وإذا راقبنا أفغانستان والعراق فهما عمليتا حصار لآسيا الوسطى وهو يفسر الكثير حول أحداث أيلول» جزء من مداخلة الفضيل التي قارن بعدها جلال فيما بين الواقعين الآسيوي والعربي في بداية العشرينات «التجربة العربية فشلت لغياب التنسيق فيما بين الدول العربية وكذلك غياب التخطيط وغياب الدولة القاطرة» مذكراً أن الوقت ما زال مفتوحاً للتخطيط بدلاً من التخبيط.
المؤتمر على قصر مدته كان كثيفا ًببرنامجه، وبالأسماء الوازنة التي قدمت أوراق بحثها فيه، وقد اعتبر الدكتور اللبناني ألبير داغر «أن المؤتمر يمثل مرافعة للدفاع عن التخطيط ودور الدولة» في الوقت الذي تشتد فيه دعوات الليبراليين الجدد والمنظمات المالية الدولية للحد من دور التخطيط وإفراغ عملية التنمية من مضمونها، مما يعيد الأمل بإعادة الاعتبار لمفهوم التخطيط في عملية التنمية.
■ المحرر