ربطة عنق.. لأقدام عارية التعليم الخاص.. للذين يملكون العملة الخاصة!!

مع بداية العام الدراسي تتكرر الحكاية... البعض سيأكل البيضة كاملة، والآخرون سترمى القشرة لهم...

تأكلنا الهموم وقد تسربت إلى حياتنا، ومع ذلك نرسم ابتسامة اصطناعية هي بعض من مناعة اكتسبتها الذات الإنسانية عبر كبريائها على مر الأيام الطويلة.

والذين يصنعون الهموم يريدون هزيمتنا، فإذا ما انهارت الأسوار الداخلية لن يبقى ما يحصننا ضد العدو. وفي الماضي أيام مرحلة الدراسة الابتدائية كانوا يلقنوننا عبارة (العدو المشترك)...ومع السنوات المريرة اكتشفنا أن العدو ليس مشتركاً. في بيوتنا نعلق صور الأبطال: غيفارا وسلطان الأطرش وابراهيم هنانو وصالح العلي، وفي بيوتهم يعلقون صور العواصم التي زاروها وكأن الوطن لا صورة له. الوطن بالنسبة لهم بيضة أكلوها وعلى غير العادة تركوا القشرة للآخرين.

ومع بداية العام الدراسي المدرسي والجامعي تتكرر الحكاية. البعض سيأكل البيضة كاملة، والآخرون سترمى القشرة لهم، ولا أريد أن أقول (سيأكلونها)، صارت اللعبة على المكشوف وتحت الأضواء انقسم التعليم إلى (عام) جرى تخريبه و(خاص) يتلقى العناية والرعاية من جهات كثيرة، وبوضوح أكبر صار التعليم الخاص للذين يملكون العملة الخاصة، يدفعون أولادهم إلى مثل هذه المدارس أو الجامعات... كم يدفعون ثمن هذا التعليم الخاص؟ لا يهمهم ذلك. ومن أين هذه الأموال التي يدفعونها؟ أيضاً يجب أن لا نهتم بذلك. هم يتقنون فن الثراء وبارعون في تحريف عبارات التقوى لتصبح في عرفهم (لئن نهبتم لأزيدنكم)...

والقائمون على التعليم الخاص ملتزمون بديمقراطية التعليم، أبوابهم مشرعة للجميع شرط أن تدفع الأقساط كاملة. هل تعرفون كم تتلقى مدرسة خاصة افتتحت حديثاً في دمشق قسطاً من طالب في الصف التاسع؟ الجواب: مئة وسبعون ألف ليرة سورية. ومثل هذا المبلغ يزداد مع الصفوف الأعلى ليصل إلى مئتي ألف ليرة سنوياً لطالب البكالوريا، بالتأكيد لا يعلمونه كيف سيدخل الجنة ولا ينظمون له رحلة إلى سطح القمر، وهؤلاء الطلاب الدارسون ليسوا عباقرة التاريخ ولا تنتظرهم مصانع اليابان على أحر من الجمر، وبتقييم أحد العاملين في هذه المدارس الخاصة جداً أن الطلبة الوافدين إليهم (عاديون) لا يتمتعون بمهارات متميزة، والبعض منهم أشقياء، والمقصود من هذه الكلمة أنهم (زعران المتنفذين والأغنياء) علمتهم الثروة كيف يتطاولون على الآخرين ولا وزن للقانون لديهم، لأنهم فوقه يبولون عليه حيث تشاء أمهاتهم ذلك. 

ومنذ الاستقلال أي منذ سبع وخمسين سنة كان التعليم الخاص يقتصر على المراحل الابتدائية والاعدادية والثانوية، يضيَّق عليه أحياناً إلى حد التلاشي، ليستعيد نفوذه في أحيان أخرى أقوى مما كان عليه. وها هو التعليم الخاص يقلب الطاولة هذا العام ليعلن افتتاح الجامعات الخاصة!!!.. بالتأكيد ليس مُلِحاً القول وغير مجد أننا مع هذا القرار أو ضده، ولكننا معنيون أن نعرف مصير أولئك الذين تخرجوا منذ سنوات من الجامعات الأربع والمعاهد الكثيرة... كم يبلغ عدد الذين حصلوا على فرص عمل تتناسب والشهادة التي حصلوا عليها؟.. كم يبلغ عدد العاطلين عن العمل منهم؟.. ماهو عدد المهندسين المعينين في وزارات الدولة، وما هي الأعمال الموكلة لهم؟ الله وحده يعلم ذلك ويعلم أنهم مهندسون غير منتجين ليس لقلة الخبرة أو ضعف الإمكانيات، وإنما لسوء التوزيع وعدم إعطائهم الفرص المناسبة للإنتاج. أما الأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان فقد غرقت البلد بهذه الاختصاصات وصار الصيدلي يبيع الشامبو وكفوف الجلي ومعجون الأسنان، يا للمهزلة! ماذا تصنع دوائر التخطيط وهل تحتاج القضية إلى عبقرية؟. المعادلة واضحة: من يعرف عدد سكان البلد يعرف كم يحتاج إلى مهندسين وأطباء وصيادلة ومحاسبين وبيطريين، ولعل الاختصاص الأخير هو أكثر ما نحتاج إليه في هذه الأيام الصعبة!. نقابة أطباء الأسنان دعت في الأعوام الماضية الجامعات السورية لإغلاق فرع طب الأسنان، ولدى النقابة إحصاء بعدد المنتسبين إليها وتعرف أننا نفوق بريطانيا بعدد هؤلاء الأطباء نسبة إلى السكان.

افتتاح الجامعات الخاصة، إضافة إلى الجامعات الأربع الحكومية سيغرق البلد باختصاصات لا فرص لها في العمل. هم يقولون بأن هذه الجامعات الجديدة ستخلق فرص عمل لبعض الكوادر العلمية، كم حجمها وعددها؟ من المؤكد أن عددهم قليل وأكثرهم متقاعدون ولا يمكن تصنيفهم ضمن أعداد العاطلين عن العمل، كذلك تشغيل مئة موظف وعامل في هذه الجامعات لا يعني القضاء على البطالة.

نحن أمام مشكلة جديدة ستغرقنا جميعاًِ... ومياه البحر تقترب منا رويداً رويداً، ولم تعد أكياس الرمل قادرة على إنقاذنا من الغرق. القرارات عندنا ارتجالية مزاجية والذين يقررون لا نريد الإساءة إليهم ولكنهم في أحسن الأحوال ليسوا موضع ثقة. في أوروبا والعالم المتقدم يستنفرون لوضع الحلول لمشكلات تعليمية مستقبلية قد تفرض نفسها بعد أسبوع. أما عندنا فيخشون من اتخاذ القرارات الجوهرية، ويمنحون لأنفسهم فرصاً طويلة من الزمن قد تمتد لسنوات، لدراسة مشكلة لا تحتمل التأجيل، متمثلين خطأً القول المعروف (في التأني السلامة وفي العجلة الندامة)، هم خبراء في كل شيء والوطن ينتظر رأيهم ولكنهم للأسف يخلطون بين قيادة العربات وقيادة القرارات.

المسؤولون التربويون يناقشون على مدى سنتين وأكثر المشكلات التعليمية المزمنة والتي نعاني منها منذ عقود. ما الذي يحصل خلال فترة السنتين التي يمنحونها لأنفسهم لدراسة الأمور؟. قد يحالون على التقاعد، أو يتم إبعادهم عن مناصبهم، ويأتي وزراء جدد ومسؤولون جدد ويحتاجون أيضاً إلى فترة زمنية جديدة أخرى، وهكذا تدور دواليب الحظ.

عندما يتحدثون عن المستقبل التعليمي والجامعي فحديثهم إنشائي يشبه مواضيع التعبير التي يكتبها الطلاب في وظائفهم المدرسية. إن المستقبل يختلف كل الاختلاف عن ماض ألفناه، تكلسنا حوله وتكاسلنا عن تغييره، إن مدرسة المستقبل تشغل بال العالم أجمع من خلال البحث في البيئة المثلى لاحتضان ناشئة يهيؤون لعالم الغد، ولا بد لنا في هذا المجال أن نزاحم أمماً وشعوباً كثيرة، والمزاحمة هنا ليست تدافعاً على أبواب الأفران وإنما إدراكاً لما يجب تغييره وتبديله، فلم يعد يحتمل التأجيل والسكوت عن مناهج تعليمية مدرسية وجامعية لا تواكب التطورات، ولا بد من اختيار مقررات دراسية هادفة تتناسب مع عقل المتعلم وإدراكه وميوله. 

في مدارسنا وجامعاتنا تسود منذ خمسين عاماً سياسة التعليم الإجباري وليس المقصود هنا (التعليم الإلزامي) وإنما فرض علوم وتخصصات ومناهج لا تتناسب وميول وقدرات واهتمامات المتعلم، ومثل هذا التعليم الإجباري هو تجهيل إجباري، ولم يعد منطقياً فرض مادة اسمها التربية القومية يصرف الطلبة ساعات طوالاً عليها، وكأن حب الوطن لا يأتي إلا عن طريق العصا وإرهاب الامتحانات، اليابانيون يحبون وطنهم لأنه منحهم حق المواطنة ولم يجهدهم في حفظ مادة (التربية القومية اليابانية). إن عدد الساعات الضائعة في حفظ مادة التربية القومية للصف الثالث الثانوي على مستوى البلاد يبلغ ستة ملايين ساعة وهي تعادل ساعات عمل لمعمل نسيج يضم مئة عامل على مدى سنتين.

التعليم الجامعي الخاص لسنا وحدنا في العالم الذي يخوض ميدانه، ولكننا نرتدي ربطة عنق جميلة لأقدام ما زالت عارية. يجب أن نشتري الحذاء قبل ربطة العنق... لاوقت للانتظار طويلاً.

 

■ مفيد حداد