أين هواؤنا؟ دمشق والتلوث البيئي.. غيمة سوداء كبيرة تحوم فوق العاصمة

■■ عوادم الرصاص لنا.. والمال لتجار السيارات!

■■ 50% من الملوثات المنبعثة من عملية الإنتاج يمكن السيطرة عليها بتحسين إدارة عمليات الإنتاج، وترشيد استخدام الطاقة وتخفيض استهلاكها وحمايتها

■■ السرطان مسبب رابع للوفيات في سورية..

■■ هنالك تلوثان: الماء والهواء، والتلوث  البصري والتلوث الأبيض!

■■ كيف سنقدر على حماية المستقبل؟!

■■ نصف ملوثات الإنتاج يسيطر عليها بتحسين إدارة الإنتاج!

■■ حجم المشاركة الشعبية في الحد من التلوث لا تذكر!!

■■ تعقيم مياه الشرب خلق تلوثاً كيميائياً!

■■ النفايات في وادي سفيرة..

حين يقودنا الحديث إلى تلوث البيئة، فلا ريب أن أحدنا سيذهب إلى الفراش، والآخر سيروي نكتة، والثالث سيجهد اللسان والحنجرة  في محاولة تبديل الحديث، بآخر أكثر إثارة وتشويقاً، بغية تنقية جو الجلسة، طالما أن البيئة تعني الجميع بقدر مالا تعنيهم.

فما من أحد أراد أن يحصل على معلومة دقيقة في هذا الشأن إلا وضرب بخفي حنين قبل أن يعود بهما. إذ أن أصحاب الأدراج المغلقة يمعنون في إغلاق أدراجهم وأفواهنا.

ومع هذا مازالت البيئة تعني الجميع، ومازال الجميع غير معنيين بالبيئة، ومازلنا نستقيظ صباحاً ليفكر كل منا في حصته من الهواء، وفي علبة السردين وورق الكتابة وكأس الزجاج ومصفاة النفط وجهاز التحكم عن بعد. وجميعها تعيش معنا وعلينا، لتشاركنا هواءنا وأجسادنا وطعامنا ولتغدو حياتنا نصف حياة نعيشها بين القبر والحاضنة.

■■ أبو خالد الذي يعيش معنا في منطقة المهاجرين يحدثنا عن صباحاته المتناثرة:

«أخرج صباحاً من بوابة بيتي في المهاجرين، لأنطلق  إلى البرامكة، حيث أعمل، وحين أنظر  إلى غيمة السواد الكبيرة التي تخترق سماء المدينة، تنتابني رغبة بالإقياء، وما إن أصل إلى عملي حتى أتأقلم مع الصباح الآخر».

تأقلُم أبي خالد الذي جاء بفعل الضرورة وليس بالبعيد عن تأقلم من يقطن ساحة العباسيين حيث القاطرات والمقطورات والسيرفيسات التي جلبها أصحابها بصفقات «المازوت مقابل المال» ليستبدلوها بصفقات جديدة وأموال جديدة.

وكذلك التأقلم في شارع النصر، وشارع الثورة، وساحة العباسيين، وساحة الأمويين وفي مناطق الوزارات والمؤسسات الحكومية وفي كل ما أحاط بنا ليجعل السرطان مسبباً رابعاً للوفيات في سورية (أي لوفياتنا) حيث باتت نسب الموت بالسرطان في معدلات متزايدة لم نلحظ أي تحرك بيئي للتخفيف من حدتها.

■■ على أطراف المدينة، هنالك مايدعى بمقلب وادي سفيرة والمقلب المذكور هو أرض ممتدة على مساحات واسعة، واختيرت لتكون مقبرة لنفايات العاصمة ومنطقة تجمع لها، بينما تعتبر النفايات في مفاهيم الصناعة الحديثة، مواد أولية، تجري عملية إعادة تدوير لها، لتستخدم في مكان وزمان مناسبين في إحدى خطوط الإنتاج.

وهذا لا يعني بطبيعة الحال، أننا سنقيم الحضارة على ركام النفايات، كما قال لنا أحد طلاب كلية التربية، بينما قال لنا شاب آخر، يضحك من تعليق صديقه:

■■ «التلوث الذي نعيشه، لا يقتصر على تلوث الهواء فقط. فمياه الصرف الصحي والصناعي والزراعي التي تصب في دورتنا الدموية، ومركبات الرصاص التي نتنفسها والتلوث البصري، وتلوث الضجيج أو ما يعرف بالتلوث الأبيض، وعشرات أنواع التلوث، يعيشها من يقطن المدينة، وهي لا تنعكس على البيئة الطبيعية فقط، بل على البيئة الاجتماعية أيضاً، كما كانت تعني أنديرا غاندي حين قالت أن الفقر هوالمسبب الأكبر للتلوث، وموضوع التلوث مرتبط بقضية التنمية المستدامة ارتباطاً وثيقاً، وغالباً ما ينتج عن قصر النظر في عمليات التخطيط للتنمية، كما حصل في مصفاة حمص مثلاً، والتي تم زرعها في وسط المدينة، وهي من أجمل مدن سورية، لتحول الناس إلى مرضى ولتزيد نسب الأورام الخبيثة والسرطانات الجلدية وسواها، ولاسيما أن موقعها يقارب  فتحة جبلية يأتي هواء البحر منها».

■■ وزارة البيئة كما صرحت مراراً، كانت قد اتخذت إجراءات عدة، للحد من الخطر القريب، إلا أن ماقاله لنا الشاب لا يخلو من الصحة. فترحيل السيارات القديمة إلى معمل حماة، أو المحاولات الجارية لتصفية النفايات الغازية قبل إطلاقها في الهواء لن تكفي لحماية المستقبل، كما أن تعقيم مياه الشرب قضى على التلوث الجرثومي، إلا أنه خلق تلوثاً كيميائياً نتيجة استخدام نسب مرتفعة من الكلور في التعقيم.

■■ والأمثلة التي نراها أكثر من أن تعد كما أن مفهوم التنمية المستدامة الذي تطرحه الوزارات المعنية ـ وأغلب الوزارات معنية ـ في برامجها وتوصياتها لم يتخذ إلى اليوم معنى إجرائياً واضحاً فيما يخص البيئة، فالأرقام الإحصائية تشير إلى أن 50% من الملوثات المنبعثة من عملية الإنتاج يمكن السيطرة عليها بتحسين إدارة عمليات الإنتاج نفسها، وترشيد استخدام الطاقة وتخفيض استهلاكها وحمايتها، وذلك ما لانجد له تطبيقاً في مؤسسات القطاع العام، التي لا يتعدى الفعل فيها مجرد التوصيات، وحتى هذه التوصيات لا تأخذ الجانب البيئي ضمن التوصيات، بينما تجار الأسواق يتاجرون بالقطاعات جميعها، ويعرقلون أي مشروع بيئي على حساب صفقة تجارية.

■■ والتعاون بين الوزارات المرتبط بهذا المجال لا يظهر إلى السطح لتشهده الناس تعاوناً ملحوظاً فيما بينها، وليكون المواطن محور حركة له، فحجم المشاركة الشعبية في الحد من التلوث وحماية البيئة، يكاد لا يذكر، وهو مقتصر على بضع جمعيات ذات نشاط محدود، في حين نجد بين شهر وآخر إعلاناً طرقياً بيئياً تدعمه إحدى شركات البسكويت أو المياه الغازية، لترويج منتجاتها التي نالت شهادة الإيزو 4000، وذلك باسثناء حملة أو اثنتين قامت بهما لجنةالمتطوعين الشباب في الهلال الأحمر، لتنظيف نهر بردى من قمامته المزمنة.

■■ والتقصير ملحوظ في شأن التوعية البيئية، ونشر الوعي ومن ثم الفكر البيئيين، وبالطبع ليس المطلوب من وزارة البيئة، إنشاء مراكز توعية بيئية لزيادة نسبة البطالة المقنعة، بدلاً من تفعيل النشاط البيئي في كل شارع وزقاق.

فالنظم البيئية ليست نظماً مغلقة، وليس لأحد أن يحتكرالمعلومة والنشاط فيها، طالما أننا نتنفس جميعاً شبه الأوكسجين نفسه، وطالما أن منتجعات الاصطياف وغابات مدننا استحالت إلى انعكاس لتشوهاتنا، فقضينا نحبها وتحبنا، وطالما أن الترموديناميك والبيولوجيا والكيمياء والرياضيات والشعر والحَدْس يقولون لنا:

■■  يكفي أيها السادة، سيأتي يوم لن تجدوا فيه هواء لتأكلوه أو تتنفسوه، وستفيقون لتسألوا بعضكم البعض، أين هواؤنا؟

 

■ المحرر