رمضان.. وأكثر

أتت تسمية  شهر رمضان من شدة الحر، وجاء بعض التفسيرات الدينية ليدل على خصوصيته المناخية والنفسية، فقيل لأنه يرمض الذنوب، أي يحرقها، ونحن السوريين اعتدنا على أن يكوي هذا الشهر منا أكثر من الذنوب، وأبعد من أوجاعنا العادية والوطنية والقومية.

هي أوجاعنا اليومية التي لم تهدأ منذ أن قالوا إن اقتصاد السوق هو مستقبلنا، وإن الانفتاح يعني أننا سنرى ما لذ وطاب، ولكننا لن نتمكن من لمسه، وسوف نشاهد بأم أعيننا ما ينتجه العالم من أدواته المتفوقة، وفي الوقت نفسه نبقى نحن أكبر المتفرجين.

منذ أن قال الفريق الاقتصادي إن رفع الدعم عن أساسياتنا الحياتية سوف يعني عدلاً أكثر، ويجعل الوطن أغنى وأوسع، منذ ذلك الوقت بالضبط صارت حياتنا أضيق، وصار اقتصادنا يعني لنا فرصة عمل أخرى لا تأتي، وسباق مع الزمن لجمع ما يسد الرمق.

منذ أن وعدنا الحالمون باقتصاد على مقاس الكروش صرنا أكثر نحولاً، وانتشت من نومها برجوازيات الزمن القديم، ودخلوا مرة أخرى في زمنهم الجميل، وأما نحن السوريين فاستفحلت بيننا البطالة والتسول والجريمة، وتوسعت أرزاقنا فقط في الظل، وفي الشوارع مددنا مخلفات الصناعات الدقيقة والالكترونية الصينية والكورية من أسوأ الماركات، وعبر وسيط أثراه منجز الخصخصة (تجار الشنطة) الذين يساهمون اليوم في ازدهار اقتصاد الالكترونيات المستهلكة، اقتصاد ظل متطور على مقاس خداعنا، فهل يمكن أن تصدق أن كل هذه الأدوات ( فلاشة- شاحن- سماعة) فقط بخمسين ليرة.

وتأتي استحقاقات الشهر الفضيل كمقدمة لاستحقاقات الشتاء القادم، مقدمة حارة وقاسية على البسطاء الذين هم كلنا، وتتعاقب الأيام السورية مع مخططات رفع الدعم عن الوقود، والدور الطويل لطالبي الدفء الذين سيتزاحمون مع طالبي الوقود لعربات النقل بعد أن صار صديق البيئة عدواً للسائقين، وستلعن ربات البيوت أولئك العاجزين عن تأمين «مونة» البيت، وهم الذين يعجزون الآن عن تلبية حاجاته اليومية.

أجزم الآن أن أغلبنا يحاول أن يمرر الأيام المتبقية مكوياً ومحروقاً من قسوة الظرف الاقتصادي، وأن أغلبنا يحاول جاهداً ألا يتذكر ما ترتبه الأيام الاعتيادية في هذا الموسم القاسي، وأغلبنا يعرف ماذا تعني أيام التحضير لقوت الشتاء في بيوتات المخالفات التي نسكنها.. أغلبنا هنا على موعد مع مواسم أكثر من عطش الصائمين وأقسى من جوعهم الاختياري.

يقلّب الحانوتي دفاتره، وهو يدرك أن ديون زبائنه ستتأخر وقد لا تعود، والزبون يهرب من حارة إلى أخرى، أو ينتظر أن تغلق المحلات أبوابها، ويقف الشاب العشريني على قارعة الطريق عسى من يحتاج سائقاً بأجرة يومه، والخياط اقترب موسم العيد الذي ينتظره كل عام دون زبائن، وأما أصحاب الورش الصغيرة فقد ناموا على حلم الفرج بعد العيد.

الآن يتسلى الناس بالحديث عن رمضان مضى، وفي ذروة انتشائهم يتذكرون الأسعار والأجواء وطقس ما قبل الفطور، وكيف كان السوق محمولاً بين أيدي البسطاء، وفي أكياس عودة الآباء إلى البيوت، وفي انتظار نكهات الوجبة الربانية التي تُحس ولا تؤكل.

تتداعى أرواح الساهرين، وتسقط بعد حين كل أماسي الشتاء في قلوبهم، ولا قلب لذكريات توجع القلب، ولا مكان لمزيد من انتهاك الروح بالذكريات، فثمة أبواب جديدة للأسى، ومواعيد للركض خلف ما كان يسيراً، فقط نكهة مريرة في الحلق لا تعيد حلاوتها أباريق التمر هندي، وكل مشتقات (عمار) الرمضانية بألوانها.

رمضان السنة أكبر من حرّه وفقره، وأوجع من حاجة الصغار إلى لباس وأرجوحة، وأوسع من رغبة أبوية بمعايدة الموتى والسلام على الأحياء.. فقط هاهنا ثمة دعوات في آخر الليل، وأمنيات تفهمها السماء.