يوسف البني يوسف البني

الاحتجاجات الشعبية في سورية... إلى متى؟ وإلى أين؟

مضت أربعة أشهر ونصف على بدء الاحتجاجات الشعبية في سورية، طرأ فيها الكثير من التغيرات على الحركة الشعبية شكلاً ومضموناً، فما بدأ احتجاجاً محدوداً ومتفرقاً، بين مدينة أو بلدة وأخرى، تحول إلى مظاهرات شعبية حاشدة تضم عشرات الألوف في بعض الأحيان، بل ومئات الألوف في بعض المحافظات، وما بدأ بمطالب مناطقية محدودة تطور شيئاً فشيئاً إلى دعوة للإصلاح الشامل ومطالب بالحرية والديمقراطية والكرامة وتحسين مستوى العيش، ليتحول بسرعة قياسية إلى دعوة صريحة إلى إسقاط النظام والتغيير الجذري.. وربما يعود هذا التحول في مسار الحراك الشعبي السوري وشعاراته إلى تباطؤ السلطة في الاستجابة لمطالب الشعب كما يرى البعض، وإلى العنف المبالغ فيه الذي وظفته لإخماد هذا الحراك الشعبي كما يرى آخرون.

وبما أن سورية تتمتع بموقع جيوسياسي هام عربياً وإقليمياً، إضافة إلى موقفها الداعم والحليف لقوى المقاومة والممانعة التي تتصدى للمخططات الإمبريالية والصهيونية، جعلها ذلك عرضة للكثير من المؤامرات على مدى سنوات طويلة، ومن هذا المنطلق سعت القوى المعادية وأدواتها في الداخل والخارج إلى محاولة امتطاء الحراك الشعبي المحق ذي المطالب المشروعة لتنفيذ مخططاتها ومؤامراتها، وتفكيك الوحدة الوطنية السورية، وظهرت من بين صفوف المحتجين بعض المظاهر والشعارات المسيئة للحركة، وأدّت المعالجة الأمنية المُبالَغ فيها والتجييش الإعلامي المستمر إلى تكريس بعض هذه المظاهر والشعارات، فارتفع معدل الدم في الشارع، ما جعل الأمور تصل إلى مستوى أزمة وطنية شاملة.

والآن هناك الكثيرون يتساءلون بقلق: إلى ماذا ستؤول الأمور؟ وماذا يحمل لنا المستقبل والأيام القادمة؟!

لمعرفة بعض تصورات المواطنين السوريين عن مصير البلاد في ظل استمرار الأزمة وتفاقمها، وآمالهم وتطلعاتهم للمرحلة القادمة، وماذا يريدون أن يجنوا بعد كل هذا النزف والشدائد، التقت «قاسيون» عدداً كبيراً من مختلف الشرائح العمرية والفكرية للمواطنين السوريين، منهم من يشارك فعلاً بالمظاهرات، ومنهم من بنى موقفه ووجهة نظره على ما يتناهى إليه من أخبار وصور على مختلف وسائل الإعلام الداخلية والخارجية، وكانت أهم الرؤى والمطالب على الشكل التالي: 

مطالب محقة وتباطؤ في تنفيذ الإصلاحات

ـ المواطن (سليمان. ع) قال: «إن هذا الحراك الشعبي هو سياسي بامتياز، ويشير إلى حياة جديدة في الساحة السياسية السورية، بعد أن عملت سيطرة الدولة والسياسة على تهميش بل وإضعاف كافة القوى السياسية السورية، وستواصل القوى الشعبية التعبير عن معارضتها للنظام وسياساته، وقد أثبتت الجماهير الشعبية قدرة فائقة على الاستمرار بالنزول إلى الشارع رغم المواجهة بالقمع والاعتقالات من القوى الأمنية ومن يساندها. والدليل على ذلك أنه لم يعد التظاهر والاحتجاجات تقتصر على أيام الجمعة، التي كانت ولفترة الموعد التقليدي للتعبير الجماهيري الأكبر كل أسبوع، بل أخذت الأمسيات السورية وعلى مساحة الوطن تشهد العديد من المظاهرات في مدن مختلفة، فالواضح أن الحراك الجماهيري السوري بات أكثر إصراراً وأصبحت الحركة الشعبية أكثر استقراراً وقدرة على تجديد نفسها مهما تعرض منها للاعتقال، ولن تتوقف الاحتجاجات إلا بتحقيق المطالب المحقة والمشروعة بنيل الحرية والكرامة والعيش الكريم».

ـ المواطن (عبد الرحمن. ط) قال: «منذ اللحظات الأولى لانطلاق الاحتجاجات الشعبية سارعت السلطة إلى مواجهتها بالقمع واستخدام السلاح الحي، ولكن بعد أن أدركت أنها تواجه حراكاً شعبياً تصعب السيطرة عليه فقد طورت أسلوب معالجتها له باتجاهين: المسار الأول تمترس عنده فريق في السلطة يريد جر البلد إلى الخراب والحرب الأهلية، وهو اتجاه استمرار المعالجة الأمنية العسكرية وانتشارها في كافة أنحاء البلاد، لاسيما في المدن والمناطق التي تشهد الحراك الجماهيري الأشد، والمسار الثاني الإسراع إلى الإعلان عن خطوات إصلاح قانوني ودستوري تنفذ على مدى شهور، ولكن بدون جدول زمني ملزِم، والذي ظهر من موقف السلطة حتى الآن ترك انطباعاً لدى غالبية المواطنين أن المشروع الإصلاحي الذي تبنته ليس جاداً، وأن التباطؤ الملموس في تنفيذه يُقصَد منه كسب الوقت لا أكثر، سواء لتوفير فرصة كافية لأجهزة الأمن لاحتواء الحراك الشعبي، أو لتخفيف الضغوط الإقليمية والدولية على النظام، وقد يكون وراء المماطلة والتسويف في تنفيذ البرنامج الإصلاحي فريق من السلطة الذي لا يريد تنفيذ الإصلاحات ويعرقلها، وإن هذه الازدواجية في سياسة معالجة الأزمة كانت أحد أهم الأسباب لفقدان الثقة الكبير الذي بات يحيط بالعلاقة بين الشعب والسلطة، وإن خيار القمع الأمني لم يجد نفعاً في وقف الاحتجاجات، بل زاد في تفاقم الاحتقان والإصرار على النزول إلى الشارع، فكلما زاد الدم زادت مساحة وحجم الاحتجاجات، وأصبح شرط وقف حملات القمع والاعتقال وإطلاق سراح المعتقلين أحد أهم شروط المحتجين للانخراط في حوار مع السلطة حول مستقبل البلاد، لتفعيل تنفيذ البرامج الإصلاحية بكل جدية ومسؤولية عالية، ولكن يبدو أن النظام لا يكترث لهذه المطالب ويتصرف كما في البداية، وكأن مسار الإصلاح مستقل كلياً عن مظاهر القمع والاعتقالات، وعن موقف ومطالب قوى الجماهير المنخرطة في الحراك الشعبي».

ـ المواطن (عساف. خ) قال: «من الواضح تماماً أن ميزان القوى قد مال لمصلحة الحراك الشعبي ضد النظام بصورة كبيرة خلال هذه الفترة من الاحتجاجات والحركة على الأرض، ويمكن القول إن السلطة لم تعد قادرة على هزيمة أو احتواء الحراك الشعبي، والطريق الوحيدة لاحتمال الخروج من الأزمة هي العمل على كسب ثقة الشارع وإقناعه بمصداقية المشروع الإصلاحي واستعداد النظام لإجراء تغييرات عميقة في جسم النظام السياسي والأمني والدستوري، فرياح الاحتجاجات هبت على سورية ولن تخمد حتى تحقيق الإصلاحات، مع أنني أرى أن الوقت قد فات على الإصلاح، وما هي إلا أيام قليلة حتى تحقق الحركة الشعبية أهدافها برفع الفساد والظلم والقمع عن الشعب السوري بأكمله، ومن المؤكد أن هناك الكثيرين من المواطنين الشرفاء الذين يستطيعون أن يحافظوا على مسيرة الصمود والتحدي والمقاومة، فلا صمود ولا مقاومة ولا عزة دون أن تعود سورية إلى الدولة الوطنية التي عهدناها، بلداً ديمقراطياً لشعب حر كريم». 

في الشارع دعماً للحوار

أحد المواطنين المشاركين في الاحتجاجات قال: «نحن مواطنون شرفاء ونحب هذا البلد ولن نسمح بتدميره أو تخريبه، ولكن لنا مطالب محقة ومشروعة، ونرى السلطة تماطل وتسوف في تنفيذها، وقد سقط منا حتى الآن عشرات الشهداء ومع ذلك فنحن مستعدون للذهاب إلى طاولة الحوار وطرح مطالبنا لإلزام السلطة بالإسراع في تنفيذها، حقناً للمزيد من الدماء ودرءاً للفتنة وضماناً لعدم جر البلاد إلى حالة من الخراب والتدمير والفوضى، وإن ما يجري في بلدنا الحبيب سورية ليس إلا من أجل الحرية وتحسين ظروف معيشة المواطن وصيانة كرامته وحقن الدماء وإطلاق سراح المعتقلين الذين يقدرون بعشرات الآلاف، كما يجب محاكمة ومحاسبة الفاسدين وناهبي أموال الدولة، لإرجاع ما سرقوه وما استثمروه بدون وجه حق إلى خزينة الدولة، دعماً للاقتصاد الذي يجب أن ينعكس إيجاباً على تحسين مستوى معيشة المواطن».

ـ الطالب الجامعي (حسام. ص) قال: «إن من واجب جميع المواطنين، كل من موقعه، وخاصة نحن الطلبة، الحفاظ على وحدة واستقرار المجتمع السوري، لذلك قررنا كمجموعة كبيرة من طلبة الجامعة أن نشارك في الحوار الوطني، من أجل تمتين الجبهة السورية الداخلية، والتأكيد على المطالب المحقة وضرورة الإسراع في تنفيذ البرامج الإصلاحية التي وعدت بها السلطة جماهير الشعب، بالعمل على إطلاق الحريات السياسية وتأمين كرامة المواطن وأمنه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، والذي يعزز بدوره الجبهة السورية الخارجية لمنع القوى المعادية من استغلال هذه الأزمة، فنتيجة لوجود الكثير من الأخطاء بالسياسات المتتالية التي أفقرت الناس وفرطت بالقطاع العام وعمقت ووسعت مؤشرات الفقر والبطالة، انفجر الحراك الشعبي المحق المُطالِب بإصلاح الأوضاع، ولكن ما لبثت أن دخلت على خط هذه الاحتجاجات القوى ذات الأجندات الأجنبية، وسببت برفع سقف المطالب إلى حدود مطلقة وغير عقلانية، ويستحيل تحقيقها تحت هذه الظروف المتناقضة، وللخروج من هذا المأزق لابد من الأخذ بمجموعة مبادرات سياسية واقتصادية ـ اجتماعية تحقق ما يلي:

1ـ إطلاق حرية الرأي والتعبير حيث لابد من فتح المجال للقوى الشعبية لممارسة دورها الفعال بالرقابة والمحاسبة والتعبير عن أرائها ومطالبها وخياراتها المتعددة ضمن حراك شعبي سلمي غير محاصَر.

2ـ الآن وبعد صدور قانون الأحزاب الذي ينظم العمل السياسي بشكل عصري ومتمدن يعبر فيه الشعب عن آرائه وانتماءاته بعيداً عن الدوائر الضيقة من الطائفية والعرقية والإثنية، وبما يحافظ على الثوابت الوطنية، ولكي يؤدي قانون الأحزاب دوره المرجو منه في إصلاح وتنشيط الحركة السياسية، لابد من وجود قانون انتخابات عصري وعادل، ومغاير تماماً لما جاء في مسودة القانون المطروحة للنقاش.

3ـ المطلب الأهم الذي يمس حياة الناس اليومية ولقمة معيشتهم هو ضرورة خلق آليات فعالة للقضاء على الفساد الذي هيأ التربة الخصبة لقيام الحركات الاحتجاجية المطالِبة بصيانة كرامة المواطن، عن طريق المراقبة على التنفيذ ومحاسبة المتجاوزين على القوانين.

4ـ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب من خلال خلق فرص عمل لكل من يحتاجها، استناداً إلى الكفاءات والمؤهلات، ومحاربة الواسطات والمحسوبيات التي خربت الوطن وأهانت كرامات المواطنين». 

تداخل بالألوان والأطياف

ـ المواطن (طلال. س) قال: «إن في كل من طرفي الصراع، السلطة والشارع الذي يحوي الحركة الاحتجاجية، متناقضات يجب الانتباه لها، حيث أن الصورة الآن مبهمة ومشوشة، ولم يعد المواطن السوري يدري ما هي الحقيقة، ومن يمتلكها، ولكن مع تعمق التجربة على الأرض يجري الفرز في كلا الطرفين، ويظهر في كل منهما اتجاهان متناقضان، فمن جهة نجد في كل الطرفين مُطالبين بالإصلاح وداعين له وساعين من أجل تحقيقه، لتجنيب البلد الدمار والخراب، ومن جهة أخرى نجد، وفي كلا الطرفين أيضاً، أشخاصاً وهم للأسف كثر وخاصة في جهاز الدولة، لا يريدون الإصلاح ولا يرغبون بالتغيير والحل الآمن لسورية، بل يهمهم فقط الحفاظ على مكاسبهم التي استفردوا بها خلال عقود طويلة، من هذا المنطلق تجد نفسك في أغلب الأحيان واقفاً في الوسط، مخوَّناً من أشخاص في كلا الطرفين، فلو ذكرت الإصلاح والحوار والخروج الآمن من الأزمة وعدم السماح بجر البلد إلى الخراب، أمام أحد المتظاهرين، يتهمك بأنك أصبحت من أذناب السلطة، وإنك أصبحت ضد الحراك الشعبي المحق، وإذا اعترضت على طريقة المعالجة الأمنية المفرطة والمُبالَغ فيها بمواجهة الاحتجاجات، وأن هناك من يصعد من القمع، وبحجة استئصال عدد من المخربين والمسلحين من بين جماهير الحراك الشعبي المحق، لا يتورع عن قتل عدد من الأبرياء، فإنك حينها تصبح مخرباً ولا تريد إنهاء الأزمة، فأنت حتماً ضد النظام وإصلاحاته. من هنا نجد أن التعقيدات المتداخلة في الحركة الشعبية في سورية قد تمتد إلى سنوات، وقد تكون أطول نسبياً من باقي الحركات والاحتجاجات التي انطلقت في غيرها من دول المنطقة، ولكن للأسف كلما طال أمد التدافع بين الشعب وحركته الاحتجاجية من جهة، والنظام وقواته لمواجهة لهذه الحركة من جهة أخرى، زادت مخاطر الصراعات الأهلية والتشققات الطائفية، وهذا أيضاً ما يسعى إليه بعض العناصر من السلطة نفسها». 

إلى أين؟ وإلى متى؟

تقف سورية هذه الأيام على مفترق طرق جدي ومصيري ستمتد آثاره إلى عقود طويلة قادمة، ليس على سورية وحدها بل على المنطقة بأكملها، لما تمثله سورية عبر موقعها وتاريخها ومواقفها من أهمية قصوى في الصراع الدائر مع القوى التي تسعى للهيمنة على العالم، ولا شك أن قوى الهيمنة سعت وستسعى دائماً لتحطيم هذا الدور المقاوم ضمن استهدافها لكل قوى المقاومة في العالم، ولكن الذي لا شك فيه أيضاً أن الوضع في سورية بما وصل إليه من فساد وهدر للحريات والكرامات، وانسداد على المستوى السياسي، وأزمات على المستوى الاقتصادي ـ الاجتماعي، يقدم لتلك القوى المتربصة أكبر خدمة لتحقيق غرضها المنشود، فلقد كان النظام السياسي في سورية مطلع هذا القرن قد وصل إلى مرحلة من الجمود تستدعي الإصلاح العاجل، وهذا ما أشار إليه رئيس الجمهورية حين وصوله إلى سدة الحكم، وأطلق ربيعاً من الوعود ما لبث أن ذوى وتلاشى، وعلى العكس من الوعود اعتلت منصة القرار حكومات خرقت الدستور وفرطت بأملاك الشعب، ودمرت البلد واقتصاده، وأفقرت الناس وجوعتهم وشردتهم، وضاعت فرصة الإصلاح على مدى عشر سنوات، فانطلق الشعب السوري ثائراً على قيود التهميش والفساد، ولم يعد بالإمكان التهرب من استحقاق التغيير وتلبية مطالب الشعب تحت أية حجة، حتى وإن رُفِعت شعارات المقاومة والممانعة، ولم يعد مجدياً اعتبار المظاهرات الشعبية مجرد صدى لمؤامرات خارجية، فالحراك الشعبي المتصاعد قد سبق كل القوى السياسية وتجاوزها، والتغيير أصبح ضرورة حيوية واجبة، لأنه ينبع أساساً من تراكم المعطيات السلبية التي أوصلت البلاد إلى هذا الوضع المتفجر، ومن هنا فإن الحراك الشعبي في سورية لن يتوقف ولن يتراجع قبل زوال الأسباب والتراكمات التي كانت السبب في اندلاعه.