عرائش الخوف

كما لو أن لي قلباً بدم من هواء بارد، وكأنها حمى ساخنة تلك التي تستقر بين كتفيّ، وثمة بياض حائر في جبيني، ولا عقل لي.. سوى شعور واحد يهزني في هذه اللحظات التي لا عنوان لها.. الرهبة.

سقطت أحاديث الحب عن الطاولات، والعشاق اليوم لا يفكرون في الزمن القادم من أية جهة، وثمة بعض هؤلاء يؤمن مثلي بأن الحب والموت يتسابقان إلى الخط الأخير، وأن سرقة ما يمكن من السرية هو انتصار على رائحة العفن التي تسيطر على الكلمات والأفواه والعقول اللزجة.

انتبهت وهي تعد عذاباتها، لا لون لي ولا قبْلَة، ولا أعرف كيف تزوجت من هذا الغبي، وكل ما في الأمر أنني اليوم أم على كومة لحم جميل، ولا أستطيع الآن أن آخذ يد من أحب إلى سرير دون شهود، ولا أفعل ما أشتهي دون التفافات الخائف، ولا احتفل بميلادي كما لو أنني ولدت بالفعل..هكذا أنا هنا بشر يحتل في أقصى بشريته فقط بما يحتله من مكان.

أما هو.. المنتبه إلى كراماته، بالأمس القريب خرج من السجن ليخيط بما تبقى من كرامته بعض فصول ثقافته، انتبه إلى صورته على التلفاز، وكانت لحيته الجديدة بنصفها المحلوق من تباشير حلته الجديدة، وقد قرر الرجل أن يغيّر كل مساحيق الماضي كما يعتبرها، والندم هو الشعور الذي يرى من خلاله تلك السنوات التي قضاها في قراءة الكتب، وشرب العرق، والغناء الطويل.. هي سنواته الميتة كما يحلو له تسميتها.

العجوز الكاذب الذي يهوى كتابة نضالات الآخرين، العجوز الذي يهز نومه الذكوري صحبة أي عابرة سبيل، الآن تكتمل غفوة كل أعضائه، ويده المرتجفة لم تعد تساعده على العبث، وما يقدر على فعله اليوم تذكر بطولاته التي لم تكن، والسباب على من كانوا السبب في تقاعد إبداعه.. العجوز المتقاعد أجمل ما فيه تقاعده.

رجل الأعمال الذي أفلس يعترف اليوم بأنه تطاول كثيراً في شموخه حتى اصطدم رأسه بالسقف، ويقول في نفسه لو أنني لم أخض تجربة المال، وبالأمس في ذاكرته فقر مدقع، والثروة التي هبطت عليه من السماء كانت تجربة لحكمته، وها هي قد خانته، والآن لا يستطيع أن يعود غنياً فقد مات رب نعمته، ولا يستطيع أن يعود فقيراً فقد مات منذ عقود ذاك الطفل فيه.

لا يمكن أن تصدق مرآتها، فالأربعون سن النكوص، وعقرب الوقت باتجاه نهاية أنوثتها، وهاهي اليوم تبحث عن ذلك النجم في صفوف الفرسان القدامى، فأياً يكن من يقول لأنوثتها ما زلت على قيد الشهوة، وتمر اليوم على سوق (الحمرا) لتشتري قليلاً من العتاد لسهراتها في ذلك المكان السري الذي تخبئ فيه لياليها، وحيث لا مرآة تتآمر عليها.

ما زال الانتهازي على حاله، وعلى رأي إخوتنا (الشوام) يودع الذاهب، ويصفق للقادم، واليوم ونحن نمسك قلوبنا من أن تقع يمارس هواية جمع المال من جيوب أولئك المعتقدين بعدم زوال النعمة، هو يهز غريزة (بطرهم)، وهم يهزون لهم بالرزم.. الانتهازي.. حتى الموت.

ها أنذا أعود إلى قلبي البارد، وهنا يوجد منْ يهمس دائماً بخبر سوء كل لحظة، فالأوقات لم تعد فرحة، وهنا جميعنا لا نحسن التعالي على مشاعرنا، وأصحو لأكتشف أنه ربما في لحظة بياض جبيني مر الذين شكلوا خارطة ما قبل التداعي.. هنا والآن بالضبط يعرّش على قلبي خوف لم يجربني.

آخر تعديل على الأربعاء, 12 تشرين1/أكتوير 2016 14:32