حي بستان الباشا بحلب بعد كارثة الانهيار وعود خلبية للاستهلاك الإعلامي.. وفضائح بالجملة

خمس وثمانون أسرة تعاني، وأكثر من ثلاثين محلاً تعيل عشرات الأسر أصبح مصير أصحابها مجهولاً.. الوعود السخية تبخرت من شدة حرارتها، ولم يبق للمنكوبين سوى رحمة ربهم ومساعدات الأقارب، المحافظ يعلنها بشكل علني بأن المحافظة غير معنية بإعادة البناء وعلى السكان تدبر أمرهم .

«أحمد رياض كركج» تحدث إلينا بمرارة عن تفاصيل انهيار البناء الذي أودى بحياة زوجته الحامل في شهرها الرابع، وابنه، وأخيه الذي ترك وراءه أربعة أطفال يتامى، المرارة الأكبر من طريقة تعامل موظفي البلدية مع المتضررين، حيث تحولت وعود التعويض إلى سكن مؤقت على شكل الإيواء (وهذا الإيواء هو لعدة أشهر فقط)، هذا السكن عبارة عن غرفة وصالون صغير في شقة غير مكتملة تحتاج للإكساء وتوفير الماء والكهرباء، وهنا لا فرق بين أسرة كبيرة وأخرى صغيرة في التخصيص. تم تسليم البيوت بعد 12 يوماً من حادثة الانهيار، مع العلم أن الجميع قد بصم على أوراق كثيرة لدى كاتب العدل بعد أن أثبت عدم امتلاكه منزلاً آخر (تصوروا حالة الأسر التي فقدت كل شيء وخرجت بثيابها فقط، تطلب منهم البلدية مجموعة من الأوراق تكلف أياماً عدة لتوفيرها)، التكاتف الاجتماعي الذي مازال موجوداً أمَّنَ المبيت والكساء والطعام لجميع الأسر المتضررة والمخلاة في الأبنية المجاورة، ولكن إلى متى تستطيع تلك الأسر المضيفة تحمل عبء تلك الضيافة،؟؟ وهنا لابد من الإشارة إلى أن محافظة حلب أو أية جهة تابعة لها (بإجماع جميع من التقينا بهم من المتضررين) لم تقدم أي شيء للمساعدة، وهذا بخلاف الأقاويل التي تحدثت عن مساعدات طارئة للناس، ولا نعرف إن كانت هناك ميزانية للطوارئ أو الكوارث لدى المحافظة، ولكن ما يعلمه الجميع أن هناك ميزانية كافية للاحتفالات المختلفة التي لا تنتهي.

أحد الذين التقينا بهم اقترح على المحافظة توجيه نداء إغاثة للتبرع كون محافظة حلب لا تملك ما يكفي لإعادة بناء ما تسببت به منظومة الصرف الصحي (التابعة لها) من انهيار المبنى، أو ما تسبب به فساد مهندسي البلدية المشرفين على ترخيص البناء إذا صح تعليل سبب الانهيار إلى ضعف مواد البناء!!!

معلم الخراطة السيد دولت جنانيان أحد أصحاب المحلات المتضررة جزئياً في البناء المجاور، فقَد عدته وعمله وحتى زبائنه وهو لم يترك باباً إلا وطرقه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكن هيهات فإن الوعود تذهب لتأتي بعدها وعود أخرى، ولا شيء يتحقق، وحتى أنه عرض أن يزيل الأنقاض بنفسه، إلا أنهم منعوه، وحاله هذه هي حال عشرات المحلات المجاورة التي تم تشميعها، بغض النظر عن معيشة الناس وأحوالهم، وعن مستقبلهم وبدون أية حلول حالية أو حتى مساعدات طارئة، فالأمر متروك لهمة اللجان، واللجان عند الجان، والجان عند الحلاق، و الحلاق عند..

إن حال الكثير من أبنية حلب النظامية أو المخالفة منها والواقعة ضمن قوس الفقر هي حال تدعو لإعلان حالة الطوارئ الفعلية لإنقاذ الناس من كوارث مؤكدة هي إحدى ثمرات الفساد الذي ضرس به أبناء الشهباء الفقراء، بعد أن تمتع بعائداته الكثير من الفاسدين منذ عشرات السنين وحتى الآن.

حي بستان الباشا نموذج لحي شعبي منظم بأدنى مستويات السلامة الإنشائية وبأعلى مستوى للفساد الإداري، مئات العمارات السكنية المتلاصقة والمتشابهة في بنائها وشكلها وتجاوز عدد الطوابق المرخص لها بطابقين أو أكثر، وهي تخلو من أي مسحة جمالية تعطي انطباعاً واحداً فقط لناظرها أن تلك المباني صممت للسكن الشعبي الرخيص نسبياً فقط، بغض النظر عن أية معايير صحية أو إنشائية، هنا تتبدى للعيان الرطوبة الشديدة وخصوصاً على المداخل وداخل الأقبية، وكون البناء تم بطريقة البناء الحجري حتى آخر طابق دون أي حساب للحمولات الزائدة أو لاحتمالات الانهيار أو الزلازل حيث، فإن الضحايا الثلاثة قضوا وهم نازلون على درج البناء.

مسؤولو محافظة حلب، وبعد التحليل والدراسة حسموا سبب انهيار أبنية الحي بنقص الحديد أو ضعف الإسمنت فقط. لاشك أن هذه العوامل تسهم في الانهيارات، لكنها ليست على الغالب السبب الحقيقي أو الوحيد، لقد تجاهلوا العوامل الأخرى واتهامات السكان للبلدية بالسكوت عن تسرب مياه المجاري لقبو البناء الذي قُدم به العديد من الشكاوى للبلدية بشأنه من صاحبه السيد «جان بارسيل»، لكنها لم تأت بنتيجة، إلى أن قرر صاحبه هجر ذاك القبو، الذي أصبح على ما يبدو خزاناً لمياه الصرف المتسربة، والتي أنهكت أساسات المبنى، وكانت السبب الرئيس لذاك الانهيار المفاجئ.

ومن باب تعميق المعرفة فإن الدراسات الأكاديمية أكدت أن الانهيارات المفاجئة تتم نتيجة عدم الدراسة الوافية للتربة، ونتيجة جهل المصمم لما تحت الأرض.. فهناك وسائل كثيرة لمعرفة باطن الأرض، وهناك علم كامل يسمى علم (الجيوتكنيك) مختص بدراسة تربة الموقع قبل التنفيذ وتحديد مقاومة التربة، حيث أن عمليات سبر التربة تتطلب معدات للكشف والتحليل، وهي مكلفة وتشكل قيمة لابأس بها من كلفة البناء، لذلك يعتمد كثير من المهندسين على الحدس في تقدير مقاومة التربة أو يأخذون عيناتهم من السطح أو من أعماق قريبة، وغالباً ما تكون هذه العينات مقبولة إلا إذا وجد تكهف تحت البناء أو طبقة من الكلس الحي قابلة للانحلال بالماء، وفي حالة حي بستان الباشا في حلب فمن اسمه نستنتج أنه عبارة عن بستان سابق كأغلب أحياء حلب، حيث أن مجرى نهر قويق لا يبعد عنه كثيراً، وبحسب العرف، وجرياً على طريقة ترخيص الأبنية في حلب، فمن المستبعد تماماً أن تكون قد أخذت أي عينة تربة من تلك المنطقة للدراسة قبل البناء، وإنما كما يحدث غالباً يتم الحفر بهدف بناء الأقبية في طبقة كلسية مميزة للمدينة. وهنا تعبير دارج أن الحفر يستمر حتى طبقة الجبل التي تتراوح بين المتر والعشرة أمتار. في حالتنا فإن أصحاب المحلات أحسوا بشكل مفاجئ بتكسر طبقة الطينة التي تكسو الأسقف وسمعوا طقطقة تكسر حديد التسليح، الأمر الذي أفزعهم، وهنا انتشر خبر السقوط، وتم الطلب من السكان الإخلاء الفوري، مع العلم أن البناية لم تكن مصنفة تحت أي خطر بعكس بعض الأبنية المجاورة التي دعمها ساكنوها، وكان واضحاً للعيان الخطر الكامن. معظم متاع الناس وأشياؤهم وبالتأكيد الكثير من ذكرياتهم قد دفنت تحت أكوام التراب.. ويؤكد كل من التقينا بهم على سلبية أجهزة الدولة بدءاً من المحافظة إلى البلدية ورئيسها المشغول دائماً حتى وصل بهم الهوان والذل إلى بعض الموظفين الصغار الذين سخروا منهم، وكأن المطالبة بالحقوق والمساعدة سوف تسحب من جيوبهم، وليست من المال العام الذي يسهل صرفه على طاولات الولائم ومهرجانات الـ...!!!

ومن المؤلم ما ذكره المتضررون من طريقة تعاطي الشرطة مع الناس المتجمعين والباحثين عن أهليهم، حيث أنهم مارسوا ما تعلموه من فنون التنظيم في مباريات كرة القدم، فانهالوا على الناس بالضرب العشوائي دون تفريق وبشكل فريد، لن نجد ما يشابهه في أي مكان آخر.. وما يُخجل بالفعل ما أخبرنا به الناس أيضاً من سرقة بعض عناصر الشرطة للبيوت المخلاة من أصحابها في الأبنية المجاورة، حيث كُشِف أمر خلع أربع شقق محروسة ونادي لكمال الأجسام، الأمر الذي جعل الناس يرسلون أبناءهم لحراسة بيوتهم من حُماتها، متجاهلين كل المخاطر، فأين الأمان بعد كل ما ذُكر؟؟ وماذا يمكن أن يحدث فيما لو تعرضنا لكارثة ما أو عدوان؟؟ كيف سيكون تصرف مسؤولينا؟ وكيف ستُحفظ حقوق الناس؟ أم أنَ اللصوص سيكملون على ما تبقى من الأحياء، ليغلقوا دائرة التدمير وليعطروا بفسادهم مصائرنا المقبلة؟؟

إننا هنا نتحدث عن بناء تجاري مرخص ومبني بشكل نظامي، وليس عن أحد أبراج البلوك المنتشرة بكثافة في أغلب أحياء حلب، والتي تشكل قنبلة موقوتة تهدد أكثر من مليون مواطن لا يملك أغلبهم سوى بيته، وهنا نعود إلى تكرار تحذيرنا من الخطر المؤجل المحدق بحلب، ويحق لنا التساؤل عن سر احتفاظ الكثير من الأبنية في بعض مناطق حلب القديمة بنضارتها وشبابها على الرغم من قِدمها، بعكس ما يظهر على الأبنية المبنية منذ ثلاثين سنة والتي تصاب بمرض الخرف الشيخوخي وهي في مطلع الشباب، هل السبب هو إصابتها بداء الفسفس الفتاك؟ الجواب معروف، فهل دواؤه متاح؟؟؟

■ مراسل قاسيون في حلب- سليم اليوسف

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الأحد, 13 تشرين2/نوفمبر 2016 23:21