المغني الجديد.. وحيداً

(والمدينة كنست كل المغنين)
درويش
 
هذه المدينة الغارقة في ذعرها، هذه الشوارع المفتوحة على احتمالات خرجت لتوها في فم المحللين والدعاة والهتاف، هذي الزواريب التي كانت ملاذاً ليد ساخنة على قلب امرأة مستحمة بالخجل، هذي الروائح التي تعاند الريح الصافرة في غير موعدها، والغيم الذي لا يحمل تباشيره.. إنها مدينتي في رقصتها الجديدة.

يستيقظ الكنّاس الصباحي ليلم بقايانا الليلية وفضلات النهار، يمارس عزفه المنفرد ويدندن أغانيه التي لا يوقظها سوى هذا الصمت المخاتل، ويمد في الزوايا مكنسته التي تشبه شعر متسولة غارقة في رزقها علّ ابن حلال يمر برغيف خبز أو عشر ليرات ساخنة.. صباح كامل للفقر والغناء.
لم يترك الكلام الكثيف أي منفذ للروح، والفضاء المخنوق بزفير المتصارعين على الحقيقة أفسد بحة ناي تتسلل من بين شفتي عجوز كئيب، وأما الكنّاس فيقف في نهاية الشارع معلناً مع بزوغ الشمس انتهاء الغناء.. ها أنا ألملم المغنين وأنسحب إلى حيث يبدأ الآن ذعر المدينة والكلمات التي ستملأ الهواء بالأدعية والتحليلات والهتاف.
الشارع لا يتسع لمرور رجل مفلوج، والعصا التي يحمل الأعمى عيناً عليها لا تلامس الرصيف المعتاد، وثمة بشر كثيرون يمتطون الأمكنة المعدة للبيع والتجارة، فقد غصت المدينة بصائدي الرزق السريع في زمن الخوف من النوم بجيوب خاوية، والجميع في الشارع يندهون على بعضهم خشية الإفلاس، بأي ثمن خذ، والجنسيات الغريبة تودع كذلك أرصفة حفظتها، فالصينيون مثلاً كانوا يتعلمون العربية و(المفاصلة) حيث لغة بيعنا المنفردة، والروسيات كن يناورن حريمنا بقياسات ضخمة وعارية لألبسة النوم، ولكنهم اليوم يعدون متاعهم ليوم خاوٍ من المتسوقين، ويوم يبقى الكنّاس فيه سيد الأغنية.
القبح ينتشر كالوباء.. وسط المدينة محشو بباعة طارئين كانوا، أريكة على جدار وكالة (سانا) وأحواض سمك ملون، وبائعة ورق العنب ترتب أوراقها لوجبة (يبرق) دون لحم، والأحذية سيدة الأرصفة دون منافس، وأما بسطات البضائع الصينية فيمر من بينها الطلاب القادمون إلى امتحانات الجامعة بنصف قلب ونصف عقل، وفي الليل تتضح الأصوات وأضواء الألعاب.. هنا لا أحد ينام فمن يضيع زبوناً محتملاً في ليل فقد الأمان.
قبل أيام ليست بعيدة كان هؤلاء يصرخون على بعضهم من رؤية شرطي المحافظة، (شيل) كلمة تعني احمل واهرب، واليوم يصير الشرطي زبوناً لكل تجار الظل، هنا يتكاثر الناس بالصياح والبيع، وهنا تستطيع أن تبيع ما تشاء.. قمصان مستوردة بخمسين ليرة، (فلاشة 4غيغا) بمئة ليرة، كل مخلفات ومؤلفات اتحاد الكتاب العرب على الرصيف، والبائع يمسح عنها غبار السنين ودخان السيارات ويهمس بصوت خافت: أي كتاب بخمسين.
في الحمراء سوق النساء والموضة.. يقف أصحاب المحال الفاخرة بانتظار زبونة ترى انكسار أسعارهم، تنزيلات وأسعار متفق عليها، وشاب يطارد فتيات صغيرات بلهجة تحمل الرجاء: فقط «تفضلوا»، وعلى الرصيف يتحدى سوق الظل سوقاً كان يطرده، وباعة الرصيف لا يكترثون بأباطرة السوق المنسيين الآن، وقبالة الطريق بالقرب من طاولة صغيرة يجلس أربعة من أصحاب المحلات المتجاورين يشربون الشاي على أصوات السوق الجديدة بانتظار موعد إغلاق السوق، بينما تسهر السوق الجديدة إلى صباح يمر فيه الكنّاس بأغنيته السيدة.
المدينة الآن.. تكنّس مغنيها بعصا الكنّاس الصباحي وتتركه وحيداً في نشيدها الجديد.