مشفى إدلب الوطني خدمات سيئة، محسوبيات، أجهزة معطلة، وإجراءات أمنية لا إنسانية
لم يكن رياض بدوي، سائق السرفيس على خط (إدلب - بنش ـ الفوعة) في محافظة إدلب، راضياً عن عمله في ذلك اليوم، فالزبائن قليلون وعليه أن يؤمن معيشة أسرته، وأسرة أخيه المتوفى التي يتكفل بمصروفها، إلى أن جاءه زبون وطلب منه أن يشارك في نقل المدعوين لأحد الأعراس، من مدينة تفتناز إلى مدينة بنش وبأجر معقول. شعر رياض بشيء من السعادة لأن هذا الطلب سيعوضه عن ركود العمل على الخط في ذلك اليوم.
انطلق السرفيس من تفتناز باتجاه بنش، وفي منتصف الطريق تجاوزته دراجة نارية، يقودها مراهقان، وأخذ سائق الدراجة يقوم بحركات استعراضية ويسير بالدراجة على دولاب واحد أمام السرفيس الذي يقوده رياض، وفجأة انفجر دولاب الدراجة الخلفي وفقد سائقها السيطرة عليها، ولسوء الحظ، صادف مرور سرفيس آخر قادم من الاتجاه المعاكس، مما أدى لحصول حادث مروّع، اصطدم خلاله كل من السرفيس والدراجة النارية، توفي على أثره راكبا الدراجة النارية، وأصيب أكثر من 15 شخص من ركاب السرفيس إصابات معظمها خطيرة، نقلوا على إثرها إلى مستشفى إدلب الوطني، كما نقلت إحدى الإصابات البالغة الخطورة إلى مشفى تشرين في دمشق.
في مشفى إدلب كان الإجراء الوحيد هو تكبيل السائقين بالسلاسل،وفي مشفى إدلب الوطني، أودع القتلى في براد المشفى، بينما ألقي الجرحى في العناية المشددة، التي لم يكن مشدداً فيها سوى الإجراءات الأمنية التي تتبعها الشرطة، إذ قامت بتكبيل السائق رياض بدوي، وسائق السرفيس الآخر بالسلاسل المعدنية، وربطتهما بسرير المشفى، رغم أن رياض كان يعاني من عدة كسور في ساقه التي تم تكبيلها، إضافة إلى كسور في الساق الأخرى، وكسور في يديه، وكدمات في رأسه ومختلف أنحاء جسمه. وقد سألنا رئيس قسم شرطة مدينة إدلب هاتفياً عن قانونية هذا الإجراء اللا إنساني بحق مرضى العناية المشددة، وهل يجوز للشرطة أن تكبل إنساناً بين الحياة والموت، ويرقد في سرير العناية المشددة؟ وأخبرناه أن رياض بدوي قد تم تكبيله من ساقه، رغم أن فيها ثلاثة كسور، فأجاب بأن إجراء تكبيل المصابين في العناية المشددة في حال وجود ضبط شرطة هو إجراء لا بد منه. وأضاف السيد العميد: يا أخي إذا لم نقم بتكبيله فإن أهل المصاب سيسرقونه ليلاً من المشفى، ولا خيار أمامنا سوى هذا الإجراء، أما إذا كانت ساقا المريض مكسورتين فهناك إمكانية لتكبيله من يده. وقال بأنه سيتصل بالمشفى ويأمر الشرطة أن تكبل رياض من مكان غير مصاب.
طبعاً إن القضية ليست في المكان الذي سيقيد منه مصاب في العناية المشددة، ولكن القضية هي في إجراء التقييد بالسلاسل المعدنية الذي يمارس بحق المصابين، والذي لا نعتقد أن دولة تحترم مواطنيها يمكن أن تتبعه. فمريض العناية المشددة، حتى ولو كان مجرماً، فإن له حرمته وعلى الشرطة أن تتخذ إجراءاتها لمنع تهريبه خارج المشفى، دون أن تشعر أحداً أنه مجرم، (كأن تضع له حارساً خارج باب العناية)، فما بالنا إذا كان المكبل لا ذنب له سوى أنه سائق سرفيس، وقد تعرض لحادث لا ذنب له فيه، وبشهادة ضبط الشرطة، إذ أكد مدير ناحية بنش أن شرطة بنش قد نظمت ضبطاً بالحادث، وقد ورد فيه أن سبب الحادث هو تجاوز سائق الدراجة النارية بطريقة غير نظامية للسرفيس، مما أدى إلى هذا الاصطدام المروع، وبالتالي، فحتى حجة أن السائق مذنب لا مبرر لها.
مدير المشفى: من كان مستعجلاً فليأتِ بطبيب من خارج المشفى.
أما عن العناية الطبية في المشفى فهي شبه معدومة، وكل ما قام به الأطباء المسعفون بالمشفى تجاه المصابين، هو وضع بعض الأوزان الحديدية في أماكن الكسور التي تعرضوا لها وإقرارهم بأن بعضهم بحاجة إلى عمليات جراحية، ولكنهم صنفوها بأنها عمليات غير إسعافية، أي أنهم سينتظرون بضعة أيام (وربما أسابيع) لإجراء تلك العمليات.
وقد سألنا الدكتور محمود باطوس مدير المشفى عن سبب عدم إجراء عمليات للمصابين، فأجاب بأن الطبيب المشرف على علاجهم قد شخص حالاتهم، بأنهم يحتاجون إلى عمليات ولكنها غير إسعافية، وبالتالي يمكن تأجيلها عدة أيام، وأضاف أن المشفى يعاني من ضغط شديد، وخاصة على طبيب التخدير، الذي لن يجري حالياً عمليات تخدير سوى للحالات المشخصة على أنها إسعافية. ولدى سؤالنا عن خطورة أن يترك مريض مصاب بعدة كسور في رجليه وحوضه لعدة أيام دون إجراء عمل جراحي، وعن مدى إحداثها لتشوهات أو عاهات في حال لم تجرَ لها الجراحة الخاصة بها بالسرعة القصوى، أجاب إنه طبيب غير مختص عظمية، وأن الطبيب المشرف على علاجهم هو من يقرر هذا الأمر، وإنه لا يستطيع أن يتدخل في عمله. وأضاف: إذا كان لديك مريض من بين الجرحى و تريد إجراء عمل جراحي له فاجلب طبيب تخدير من خارج المشفى ونحن كإدارة مشفى نقدم له الثناء على عمله.
الحالات الإسعافية قد تنتظر عدة ساعات ليراها طبيب غير اختصاصي:
شاءت الأقدار أثناء تواجدي في محافظة إدلب، أن سقط ابني الذي يبلغ سنتين من العمر، من ارتفاع ثلاثة أمتار، في خزان مياه أرضي قيد الإنشاء، فقمنا بإسعافه إلى قسم إسعاف الأطفال في مشفى إدلب الوطني، حيث لم ينظر إليه الطبيب، فمجرد أن استمع إلى شرحنا عن حالته طلب منا أن نجري صورة شعاعية عادية لرأسه مدعياً أن هذه الصورة تبين وضع الدماغ، (والتي تبين لاحقاً أن مثل هذه الصورة لا معنى لها في مثل هذه الحالة فالطفل يحتاج إلى صورة طبقي محوري)، ذهبنا إلى قسم التصوير وأجرينا الصورة التي طلبت منا، وعدنا إلى قسم الإسعاف فطلبوا أن نضع الطفل في إحدى الغرف بانتظار الطبيب المختص، للكشف على الحالة الإسعافية التي بين أيدينا، أخذت زوجتي الطفل إلى الغرفة، التي قيل لنا أنها لإسعاف الأطفال، وكانت غرفة ذات رائحة كريهة، فيها ثمانية أسرة مغلفة بجلد مهترئ، وشديد القذارة، دون وجود أي غطاء عليها، وهي تغص بنساء مريضات ومرافقاتهن، ولم يكن فيها سوى طفل وحيد بالإضافة إلى طفلي، وبينما كانت زوجتي تنتظر مع طفلها على طرف أحد الأسرة، وعند مجيء الطبيب للكشف عليه، جاءت سيدة يبدو أنها «مدعومة»، إذ كانت تحمل شرشفاً نظيفاً من شراشف المشفى، وطلبت من زوجتي بثقة المدعومين أن تخلي لها السرير، ففعلت. كونها لم تعد تستطيع الانتظار أكثر. وبعد أكثر من ساعة من الانتظار للطبيب الذي لم يحضر، أخبرتُ مراقب الدوام أنني أتيت بحالة إسعافية منذ أكثر من ساعة، ولم يحضر طبيب ليكشف على الطفل، وأخبرته إنني صحفي، وأريد أن أقابل مسؤولاً بالمشفى، فأخبرني إن المشفى، مساءً، لا يوجد فيه أطباء اختصاصيون على الإطلاق، وإن حالة ابني تستدعي طبيب عصبية، ولا يوجد سوى طبيب مقيم وحيد، اختصاصه عصبية، ولديه الكثير من الحالات الإسعافية، وعلي أن أنتظره حتى يفرغ من عمله، وبالصدفة حضر معاون مدير صحة إدلب إلى المشفى، فاصطحبني مراقب الدوام إليه وشرحت له ما حصل معي، فتم إحضار طبيب خلال أقل من دقيقة، قام بالكشف على ابني الذي لم تكن حالته خطيرة، وطلب مني أن أراقب وضع الطفل، وفي حال ساءت حالته أن أذهب مباشرة لأي مركز للتصوير الطبقي المحوري خارج المشفى، وأجري له صورة، ثم أعود إلى المشفى كون جهاز الطبقي المحوري في المشفى معطل منذ مدة.
وهنا نتساءل: لو جاءت حالة خطيرة تستدعي عملاً إسعافياً سريعاً، فهل على المريض أن ينتظر لساعات ريثما يفرغ الطبيب الوحيد وينظر في حالته؟! في حال بقي على قيد الحياة!
مواطنون راجعوا المشفى:
أكد المواطن أحمد حامض أنه اصطحب أمه إلى المشفى الوطني في إدلب، فكان تعامل الأطباء والممرضات معها، وكأنها تتسول العلاج منهم، إذ أكدت أن الممرضات في المشفى يتعاملن مع المرضى بقرف واستعلاء، كما أن الكشف على المرضى مجرد تحصيل حاصل. إضافة إلى نقص في معظم المستلزمات الضرورية التي يحتاجونها في عملهم. وأضاف: طلب مني الطبيب صورة طبقي محوري من مشفى خاص، لأن جهاز الطبقي المحوري في المشفى معطل منذ مدة، وأكد لي أنه لن يعمل قبل شهرين، وغمز السيد أحمد إلى أن تعطيل جهاز الطبقي المحوري قد يكون مقصوداً، لتشغيل جهاز الطبقي المحوري المأجور في المشفى الخاص.
إذا عرف السبب بطل العجب:
عبّر مرافق أحد مرضى الحوادث ووالده عن امتنانه للعناية التي يتلقاها ولده في المشفى، إذ أكد أن المشفى، إدارةً وعمالاً، جيدة. فهم يقدمون له كل الخدمات التي يحتاجها لمريضه وأن أحداً لم يقصر معه. ولدى سؤالنا إياه عن سر هذه العناية الاستثنائية، رغم أن الجميع يشكو سوء المعاملة، أكد أن لديه قريب يعمل لدى إحدى الجهات الأمنية، وهو يعرف كل من في المشفى ويستطيع أن يفرض عليهم ما يشاء.
وفي النهاية نقول: إن المشفى الوطني في إدلب هو صرح حضاري يقدم الخدمات لمئات المرضى يومياً، نتمنى على الجهات المعنية أن توليه الاهتمام اللازم، من حيث تأمين المستلزمات الطبية الضرورية والأجهزة اللازمة، والكوادر التي تتناسب مع عدد المرضى الذين يزورونه، كما نتمنى على إدارة المشفى أن تتابع عمل كوادرها، فتعاقب المقصر، وتثني على المجدّ. وأن لا تسمح لهذا الصرح الحضاري أن يتحول إلى مزرعة للمحسوبيات والواسطات، لأن عمل المشفى هو عمل إنساني بالدرجة الأولى، ولا يحتمل المحسوبيات ولا الواسطات.