من سيفرح بها؟ تفتيش التفتيش.. زيادة في فاتورة العامل ورب العمل

غير مصدق، ربما كان مجرد مزاح صحفي، أو خبر مدسوس، أعدت قراءته أكثر من مرة، التفاصيل التي حملها الخبر تؤكد جديته وصحته.

كالنكتة كان مطلبنا لحل بعض أواصر النزاع بين الموظف المرتشي، والمواطن دائم الحركة، والتعامل مع الموظف بمعاملة رسمية، سند أمانة، شهادة حسن سلوك، عقد إيجار، عقد نكاح، طلاق، شهادة تأدية الخدمة.. الخ.

لكن الخبر كان جدياً:

(أحدثت المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية مديرية جديدة باسم (مديرية التفتيش على التفتيش)، وذكر خلف العبد الله مدير عام المؤسسة أن المديرية الجديدة ستلعب دوراً مهماً في متابعة أعمال المفتشين ومراقبة فواتير المعامل ومتابعة المصدر الرئيسي والتأكد من صحة المسجلين خاصة، وأن هناك عبئاً كبيراً يلقى على عاتق دوائر التفتيش في دعم صناديق المؤسسة مالياً، وذلك خلال قيامهم بجولات تفتيشية لإشراك جميع العمال وأصحاب العمل بالمظلة التأمينية، وإجراء المسح العام على كافة المنشآت، مشيراً إلى دور المؤسسة الفعال في خلق مناخ سليم من خلال سعيها المتواصل لتوفير عاملي الاستقرار والأمان الاجتماعي للمؤمّن عليهم ولأفراد أسرهم خلال سنوات العمل وبعد مرحلة العمل عند الإحالة إلى التقاعد، وما بعدها عند الحاجة.)

الحجي والتفتيش

لتاريخه لم يزل العامل «عطية» بعد نضال طويل يحلم بالسنتين التي وعد الحجي صاحب منشرة الرخام أن يضيفها إلى خدمته ليحال على التقاعد.

النضال الطويل الذي خاضه عطية يمكن أن يكون ملحمة في نضال العامل السوري ليصار إلى تحقيق أبسط حقوقه المغيبة.. ببساطة استطاع العامل عطية في منشرة الحجر التي تورث الربو وربما السرطان أن يؤلب عمال المنشرة على وكيل الحجي المعلم محمود الذي يوهمهم بأمانته، بينما يؤكد عطية أنه يسرقهم مع الحجي سوية.

منذ أشهر تمرد العمال وطالبوا بتسجيلهم في التأمينات الاجتماعية، بمساعدة أحدهم، جاء التفتيش، وسجل العمال، وأضاف كذلك إفادة صاحب العمل، المماطلة الأولى في لعبة التفتيش هو أن يراجع صاحب العمل التأمينات خلال عدد محدد من الأيام ليؤكد صحة ما قاله العمال أو ينفي ذلك ويعترض عليه..

اللعبة المشتركة

بينما ظن عطية أن ثمار نضاله الطويل قد بدأت تنضج وتعطي النتائج، كان في الخفاء يتم عقد صفقات مريبة، الحجي بالرشوة أحياناً بالتهديد بالطرد أحياناً أخرى، الطرف الآخر مفتش من التأمينات ذو خبرة طويلة أراد أن يفهم العمال أن تعويضاً مغرياً هو بالتأكيد أهم من راتب تقاعدي قد لا يعيشون للاستمتاع به أو صرفه.

بين الحجي والمفتش تهاوى العمال، قبض أغلبهم 100 ألف ليرة وتراجع عن إفادته، وبقي عطية واجماً عندما عرف الحقيقة التي كان يود ألا يصدقها.

بقي عطية وحيداً في المعركة، سجلت سنوات خدمته في التأمينات، البقية صرفوا التعويض في شهرين، أحدهم في أيام، وبقيت لعطية سنتان لم يقرهما صاحب العمل، وما زال الحجي (الورع جداً) يطلق وعوده بتسجيلهما لعطية الذي رفض بيع حقه بدفعة نال موظف التأمينات نصفها رشوة، على ذمته.

وجبة دسمة

إحسان (ن) أحد العمال القدماء في القطاع السياحي، يعمل في فندق كبير منذ خمسة عشر عاماً، بصفة كبير (كراسين) المطعم الأوروبي، يوجز لنا ببساطة أن أغلب العاملين في الفندق المحترم ليسوا مسجلين في التأمينات الاجتماعية، السبب بسيط وهو أن موظف التفتيش المعين من صاحب العمل براتب شهري محدود ووجبة غداء يتغاضى عن تسجيلهم!! يتغير المفتش ويستمر الراتب والوجبة لمن يخلفه.. وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية..

أحد نقابيي قطاع السياحة يتحدث عن معاناة أخرى تكمن في عدم تثبيت الراتب الحقيقي لموظفي هذا القطاع، فعماله يتقاضون أجوراً عالية قد تصل إلى نحو 100 ألف ليرة سورية في الشهر كالشيف (أ.ر)، لكن التأمينات لا تسجلهم بأجورهم الحقيقية إلا ما ندر.

المديرية الجديدة

(المديرية الجديدة ستلعب دوراً مهماً في متابعة أعمال المفتشين)، هذا ما جاء في الخبر الرسمي..

ولكن هل ستراقب المديرية المفتشين بمفتشين جدد؟ هذا على الأقل اعتراف قطعي للمؤسسة طالما نفته عن السلبية المفرطة لدوائر التفتيش في أداء واجبها، وطالما دافعت هذه المؤسسة عن فعاليته وجدواه.. عبثاً!

هل ستتابع أعمالهم من خلال التقارير التي سيقدمونها ثم إرسال دفعة من المديرية للتدقيق على الواقع؟

هنا ستزيد حصة المفتش الذي ربما سيدفع لمديريته الجديدة ما يجعلها تصادق على عمله، أو ربما وهذا الأرجح، سيدفع له رب العمل مرتين ليصادق على عدم التسجيل.

العامل سيبقى خارج الدائرة، وستفوت عليه مرتين في هذه الحالة، فرصة أن يصبح مؤمناً عليه بالفعل لا بالشعارات الجوفاء.

أموال نائمة

(عبئ كبير يلقى على عاتق دوائر التفتيش في دعم صناديق المؤسسة مالياً)، ماذا ستفعل المؤسسة بصندوقها المالي سوى زيادة حجم الأموال المكدسة فوف بعضها، ومؤسسة التأمينات هي من أوائل المؤسسات التي تجمع المال وتكدسه، والمشاريع الاستثمارية للمؤسسة على قلتها، لا تعدو أن تكون إلا مجرد أحاديث لم تنفذ بعد، بل أن أغلبها لا يتجاوز حسب أحد المدراء فيها بناء فندق أو مطعم مجاني للمتقاعدين، لكن ما العائد الذي سيجنيه المؤمن عليه من استثمار أمواله في مؤسسة أنشأت لخدمته، ولكن لم تقدم له سوى النزر اليسير؟.

أبواب موصدة

(إجراء المسح العام على كافة المنشآت)، إذاً هناك منشآت غير مسجلة..

أحد المفتشين المحقونين قال إن هناك منشآت في هذا البلد لا يستطيع أي مدير أن يطلب، مجرد طلب، صاحبها، منشآت على أبوابها رجال ضخام وخلف الأبواب كاميرات تصوير، ومئات العمال الذين لا يعرفون معنى التأمينات الاجتماعية. الأدهى أن بعض العمال يؤكدون أنهم لا يريدون التأمينات، وأن المعلم لا يترك فرصة أو مناسبة إلا ويتذكر العمال إلا بمكافأة أو عيدية، بعضهم أجرى عمليات كبرى على حساب المعمل، وأن الحجي (مرة أخرى) يؤمن بالله، ولكنه يفهم أن ما يقدمه للعامل أهم مما تقدمه التأمينات.

من تصدق

(عاملي الاستقرار والأمان الاجتماعي للمؤمّن)، هل يعيش العامل في القطاع الخاص؟ لينعم حسب ما جاء في الخبر بما يسمى (عاملي الاستقرار) و(الأمان الاجتماعي)، يبدو الكلام فضفاضاً على ما يمكن أن تلمحه من ضياع وقلق في وجوه العمال، هل من يعمل باستقالة مسبقة لديه عامل أمان؟، هل من يتقاضى 10000 ليرة-150000 ليرة في الشهر يتحقق له الأمان في ظل السعير الذي أصاب السوق؟

هل يشعر بالأمان من يعمل أكثر من عملين لكي يعيش؟ هل من لاضمان صحي له يشعر بالاستقرار؟

هل من لا يستفيد من إصابة العمل يتحقق له الأمان؟

من يعمل ساعات مفتوحة على العد دون رقيب.. مَن مِن المسؤولين التأمينيين يعرف شيئاً عن حاله؟

مت...قاعد

(وبعد مرحلة العمل عند الإحالة إلى التقاعد، وما بعدها عند الحاجة.)

كيف؟ يخرج السوري من الوظيفة إلى القبر، أو وظيفة تشبه القبر، سن التقاعد لدى السوري هو 60 عاما، وقد طالبت جهات عدة بتخفيض سنوات الخدمة ليصبح الدخول في سن التقاعد 55 سنة مشروطاً بـ15-20 سنة من خدمة الدولة.

بانتظار قانون العمل الجديد والعمل به، لا بد من تأمل السنوات التي تضيع على العامل ريثما يصبح هذا القانون سيد الطبقة العاملة ومنصفها.

لو نجحت التجربة!

لو قدر لهذه التجربة أن تنجح، هل ستعمم على الجهات العامة؟ هل سنرى موظفاً يشبه الآخر ويراقب عمله، ثم يقدم الأول تقريره والآخر يصادق عليه أو يخالفه، أم خلف الجدران يتفق الاثنان على اقتسام الوجبة الدسمة، ثم في غرفة بعيدة عن الأعين يقدمان تقريراً متشابهاً بعد أن يتبادلا ابتسامات الطمأنينة مع صاحب العمل؟

مفتش مالية ومفتش مفتش المالية

مفتش تربية، ومفتش مفتش التربية..

مفتش تموين، ومفتش مفتش التموين..

مفتش الكهرباء، ومفتش مفتش الكهرباء..

مراقب شبكة المياه، ومراقب مراقب الشبكة.

مفتش الضرائب، ومفتش مفتش الضرائب!!!

تناسخ ايجابي

حسب النظرية السابقة (مفتشي المفتشين)، سوف تنعكس التجربة إن نجحت خيراً على البلد الذي يمر بأزمات خانقة، سيكون بإمكاننا تعيين عدد الموظفين نفسهم في دوائر التفتيش في كل الوزارات، وبالتالي سنتمكن في ضربة معلم واحدة أن نقضي على البطالة بكافة أشكالها المقنعة والسافرة، وأن نقضي على الرشوة أو يصبح المجتمع متساوياً على الأقل في صفة واحدة أن يكون كله من المرتشين.

ببساطة أيضاً، يمكننا أن نحصل على تقريرين عن أي مؤسسة، بل تقرير واحد ونستفيد من تناقضهما أو تشابههما.

نوحد في ضربة واحدة جميع أنواع العمل في التفتيش وبذلك نساهم في خلق مواطنين متشابهين من حيث النظرة التفتيشية، وهذا ما سينعكس على عدم إضاعة الوقت في الاجتهاد كون المخالف على حق أو باطل.

نظرية شعبوية

المديرية الجديدة أنشأت بناء على اقتراح موظف كان ذات يوم في صفوف الشعب، تأفف كثيراً من الرشوة، الفوضى، رأى معامل مغلقة، موظفين مرتشين، مدراء غير مبالين، مؤسسات شبه واقفة، دفاتر ضرائب مزورة، مفتشين بوجبة غداء وراتب شهري، صاح من اختناقه، المفتش يحتاج إلى مفتش، الرقيب يحتاج إلى من يراقبه، يبدو أن صاحب الفكرة الشعبوي، أراد لصيحته القديمة أن تصبح قراراً.

بقليل من الضمير، وبإدارات على مستوى المسؤولية، براتب شهري يكفي المفتش من العوز، بعقوبات رادعة، بالاعتماد على جيش العاطلين عن العمل من حملة شهادات التجارة والاقتصاد والمالية أن نصنع كادراً مدرباً، مع قليل من الإيمان بالوطن كمؤسسة لا أفراد، لا نحتاج إلى إدارات لتفتيش الإدارات نفسها.