الفقراء ينشئون بنوكهم الخاصة بلا «ربا» أو «فائدة» أو تعقيدات بيروقراطية

في ظل أوضاع اقتصادية صعبة تعيشها المنطقة بشكل عام وسورية بشكل خاص، ورغم الحديث المتكرر عن تحقيق قفزات اقتصادية تؤكدها معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة والتي قاربت 6% كما يدعي أصحاب الشأن ومن بيدهم القرار الاقتصادي، إلا أن أحدا لا يستطيع إنكار المصاعب الاقتصادية التي تعاني منها غالبية الأسر السورية، وخاصة في ظل تعاظم ظاهرة البطالة بأشكالها المختلفة والتي تصل نسبتها حسب العديد من المصادر إلى ما يقارب 30-40%، لدرجة باتت فيها تلك المصاعب تشكل كابوساً مؤرقاً للكثير من أبناء الشعب السوري.

وبالتالي كيف يمكن الخروج من هذه الحالة؟ أو على الأقل، كيف يمكن التخفيف من وطأتها على حياة الآلاف من الفقراء في هذا البلد، خاصة وأن مجمل ما طرح من حلول هو بدون شك لغير صالحهم، وإنما على العكس تماماً، كان على حساب حياتهم وربما مستقبلهم و أطفالهم.

  وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الغالبية العظمى من أبناء الأحياء الشعبية المنتشرة حول العاصمة دمشق، وكذلك عدد كبير من سكان الريف السوري، يعملون بأشغال غير ثابتة الدخل (موسمية)، كما أن دخل الموظف الحكومي أو العامل في القطاع الخاص لايعين على مصاعب الحياة اليومية المتفاقمة، إضافة إلى الوضع اللبناني المتأزم الذي ألغى عشرات ألاف فرص العمل التي كانت متوفرة عبر البوابة اللبنانية، وازداد الأمر سوءا بدخول أكثر من مليون ونصف من الأخوة العراقيين إلى سورية، الأمر الذي حمّله البعض مسؤولية ارتفاع الأسعار الجنوني بدءا من العقارات وانتهاء بالسلع الغذائية الأساسية.

كل ما سبق لم يترك أية فرصة تمكن هذه الأسر من اعتماد نظام عيش وحياة  كريمة ولائقة، فالدخل الشهري، وصعوبة الاقتراض من البنوك الخاصة أو الحكومية، ألغى أيضا فرصة التفكير في إنجاز مشاريع صغيرة يمكن أن تحسن من ظروف معيشة هذه الأسر.. لهذا لم نستغرب في جولتنا على بعض الأحياء الشعبية في العاصمة السورية، عدم قدرة الغالبية العظمى من الأسر هناك، على تأمين الحاجات الغذائية الضرورية حيث أنك تجدهم يستبدلون هذه المواد الضرورية بأخرى رخيصة الثمن بغض النظر عن جودتها وقيمتها الغذائية أو مدى ملاءمتها من الناحية الصحية، كما «وأبدعت عبقرية» هؤلاء بنوكا خاصة بهم (الجمعيات) بلا فائدة أو تعقيدات بيروقراطية.

إن الوضع المعيشي الصعب الذي تحياه غالبية الأسر السورية، دفع الفقراء في إطار التآلف والتكيف مع الظروف إلى استنباط أساليب تعين على تجاوز هذه الظروف الصعبة، حيث راحت تنتشر ظاهرة الجمعيات الشهرية بين الأصدقاء والأقارب والجيران، وهذا بمثابة بنوك خاصة بالفقراء بهدف تأمين المال اللازم لشراء ضرورات الحياة اليومية أو زواج أحد الأبناء أو القيام بمشروع صغير أو سداد لدين متراكم.. خاصة وأن الدين في هذه الأحياء سمة لا يمكن تجاوزها، فغالبية محلات بيع المواد الغذائية ومحلات الملابس والتجهيزات المنزلية لديها دفاتر دين، فالبيع ديناً وبالتقسيط هو الشكل الرائج والمتاح.

شهادات حية

أم وليد، ربة منزل وتعيل أسرة من تسعة أفراد وواحد فقط من أفراد الأسرة يعمل، والآخرون طلاب أو عاطلون عن العمل، لهذا فهي مضطرة -كما تقول - لأن تخدم في المنازل ولدى الأسر الغنية ولا يتجاوز دخلها الشهري من هذا العمل العشرة آلاف ليرة سورية.. وعندما سألناها عن كيفية تدبر الأسرة لمعيشتها وحياتها بهذا الدخل، أجابت بلا تردد أو حرج: أنا لا أذهب إلى السوق في الفترة الصباحية، فالأسعار في هذا الوقت تكون باهظة وكاوية، وأقصد السوق في فترة ما بعد الظهر حيث غالبية الباعة يقدمون لك بقايا الخضار والبقول الباقية لديهم بأسعار رخيصة جداً.. وتتابع أم وليد: أما بالنسبة للفواكه، فآخذها في الشهر مرة واحدة واللحوم أستعيض عنها بسودة الدجاج والجوانح مرة أو مرتين في الشهر، وغالبية الأطعمة التي أعدها خالية من اللحمة وعامرة بالرز أو البرغل.. ومع كل هذا التقنين فإني في غالب الأحيان أضطر إلى الاستدانة لتوفير متطلبات العائلة.. وإذا ما مررنا بحالة طارئة فإني ألجأ مع بعض الجيران إلى تأسيس جمعية بقيمة خمسين ألفا، علها تساعد في مواجهة هذا الطارئ.

أبو خالد من سكان حي التضامن يقول مجيباً على سؤالنا له عن كيفية تدبر أموره وهو عامل موسمي: لا خيار أمامنا إلا التكيف مع هذا الوضع، فما باليد حيلة، حياتنا صعبة، وأوضاعنا الاجتماعية غير مستقرة فالمشاحنات والمشاكل مع الزوجة والأولاد دائمة ومستمرة لناحية تأمين الطعام أو الكساء، ولا أبالغ إذا قلت لك إن دخول الفروج أو اللحمة إلى البيت أصبح يوماً احتفالياً، وهذا ليس خيالاً أو انطباعاً من مسلسل مصري كنا نراه ونستغربه.. إنه واقع حالنا وحياتنا. وأضاف: الشهر الماضي دخلت مع بعض الجيران والأصدقاء جمعية بقيمة مائة ألف ل. س علّي أتمكن من (فتح) بقالية، لعل ذلك يساعدني على تحسين وضعي المادي.

لكي نستمر على قيد  الحياة!

إذاً البنوك الخاصة بهؤلاء الفقراء أو الجمعيات كما تسمى، هي لإنقاذ «شبه» حياة من الضياع، لكن السؤال الذي بات ملحاً: لماذا لا يستفيد أولئك الفقراء من البنوك وقروضها التي يعلن عنها يوميا والتي باتت حاضرة بقوة على الأرض، وكثيرا ما جرى الحديث وفي أكثر من مناسبة وعلى لسان أكثر من مسؤول على علاقة بالموضوع عنها وعن مدى التسهيلات الممنوحة للحصول عليها وسدادها؟؟ على ما يبدو أن الواقع بعيد كل البعد عما قيل..

أبو خليل من سكان الحسينية موظف في إحدى الشركات ويعيل أسرة من أربعة أفراد يقول: الحياة صعبة فكل شيء في حياتك اليومية يحتاج إلى موازنة وتخطيط وبدون ذلك تغرق في الدين وتموت قهراً.. وعن زيادة الرواتب والقروض الميسرة أو قروض مكافحة البطالة يقول: إن كل زيادة في الراتب تمتص بأضعاف من خلال رفع أسعار المواد والسلع، والقروض معاملاتها معقدة وتحتاج الكفيل والواسطة. وأكثر من ذلك يبدو أن هذه البنوك أصلا ليست لنا وإلا فما هي أسباب كل هذه التعقيدات؟ كأن المراد إيصاله أن الفقراء لا مكان لهم هنا، وإذا تيسر الأمر فإن ظروف البلد وحالة الركود الاقتصادي تجعل من أي مشروع تفكر به مغامرة غير مضمونة النتائج.. ويتابع: رب العالمين وحده يعلم كيف نعيش وماذا نأكل وكيف؟؟؟

أما السيدة أميرة (موظفة) فعبرت عن المسألة بقولها: الله يرحم أيام زمان، تغيرت الحياة وتغيرت معها الكثير من القيم والمفاهيم بسبب الظروف الاقتصادية القاسية وشح الموارد. في الماضي كان من السهل أن تلجأ إلى أخيك أو صديقك أو جارك طالبا منه المساعدة المالية، وسرعان ما يلبيك، أما اليوم ولاعتبارات مختلفة، «ما عاد في حدا لحدا»، الكل يشكو ويعاني، وإذا أردت أن تلجأ إلى طلب قرض من أحد المصارف فالطريق طويل، وإن استطعت أن تصمد حتى النهاية تفاجئك الاشتراطات القاسية التي لا تستطيع تلبيتها. لهذا وفي مثل هذا الوضع ما هو الخيار المتاح أمامك؟؟ أعتقد أن الجمعية ربما تكون سبيلا يساعد في حل بعض المشكلات المالية للكثير من الفقراء.

حسن خريج آداب حدثنا عن موضوع الجمعيات بالقول: قبل التفكير في الاشتراك مع بعض الأصدقاء والجيران في جمعية شهرية بهدف إيجاد بعض الحلول للضائقة الاقتصادية التي أمر بها، حاولت اللجوء إلى المصرف العقاري، لكن كون منزلي (كاتب عدل) وليس (طابو)، لم يقبل البنك بمثل هذه الضمانة، وكذلك حاولت اللجوء إلى مصرف التسليف الشعبي، لكن عملية الذهاب والإياب والطلبات التي لا تنتهي، وبعد أن سدت كل المنافذ أمامي استعذبت فكرة الجمعية، وأنا اليوم أشجعها لأنها تحمل شيئاً من الحل للمشاكل المالية التي يعاني منها الغالبية العظمى من أبناء الأحياء الفقيرة، وكل «الأمنيات» أن يعاد النظر في قوانين التسليف والتمويل المعمول بها في مصارفنا، حتى نتمكن من إيجاد الحلول لمشاكلنا المعقدة والمتفاقمة.

وعندما توجهنا بأسئلتنا إلى السيد حسام، وهو مهتم بالشأن الاقتصادي أجابنا:  في الأحياء الشعبية يلجؤون إلى هذه الطريقة ليتمكنوا عن طريقها من حل قضايا معيشتهم، إذ أن المليارات المكدسة في المصارف الحكومية على اختلافها (عقاري تجاري تسليف..) يبدو أن الإدارة المالية المشرفة على هذه الأموال لا تتقن حتى اللحظة فن إدارتها بما ينعكس إيجابا على مجمل الوضع الاقتصادي، وبشكل خاص المساهمة في إيجاد حل لمشكلة البطالة التي بلغت أرقاما مخيفة، البعض يقدرها ب 15% وآخرون يقدرونها بنحو 30%، وأنا أعتقد أن هذه المليارات لو وجدت من خلال الإدارة المالية طريقا إلى الناس عبر أساليب سهلة وميسرة وبنسب فوائد معقولة لاستطعنا بالتأكيد أن نحقق إنجازين بآن واحد، الأول تدوير هذه الأموال «لتعظيمها»، والثاني إيجاد حلول لمشاكل اقتصادية واجتماعية نعاني منها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن إغلاق كل السبل أمام الفقراء من خلال الاشتراطات القاسية والتعقيدات البيروقراطية، دفعهم إلى ابتكار ما يسعفهم في إيجاد حلول لمشاكلهم من خلال الاعتماد على ذواتهم، فتم إنشاء ما يسمى بالجمعيات الشهرية التي تتراوح مابين 25000 ليرة سورية إلى 200000 ليرة سورية يتم توزيعها شهريا على أحد المشتركين، وهي طريقة قد تبدو بدائية ونحن نلج عالم القرن 21، لكنها في ظل أوضاع كالتي نعيش أعتقد أنها حل سحري يخفف الكثير من وطأة المعيشة القاسية والبطالة القاهرة.

وغالبية من التقيناهم في جرمانا وبرزة وحي تشرين والمخيم.. أكدوا الوضع السابق، وأمام هذا الواقع نحن لا نملك إلا تصوير أوضاع هؤلاء الفقراء، ونقل أصواتهم، لعل أحدا يستمع لهم، فهم بحاجة إلى معجزة لانتشالهم من ظروف حياتهم الصعبة والمتردية، وإن كان هناك من يظن بأن مانقلناه يحمل مبالغة أو نظرة سوداوية، فبإمكانه أن ينزل إلى أي من المناطق التي تطرقنا لها في هذا الموضوع وخلال لحظات يمكن لعينيه أن تلتقطا صورة قد تشكل ذاكرة بصرية عن حقيقة الحياة لآلاف من الأسر.. حقيقة لا يريد أي مسؤول أن يقر بها وبأخطارها إن بقيت على ما هي عليه، فهل لدى أحد من أصحاب القرار رؤية أو حل ينتصر لهؤلاء الناس لا يكون على حسابهم، وينقذ ما تبقى من رمق الحياة لديهم قبل أن يفلت منهم إلى الأبد؟

إن الحكومة مطالبة بوضع استراتيجية اقتصادية خاصة لانتشال الفقراء مما هم فيه وفي هذا مصلحة للجميع.. مصلحة للمواطن البائس قليل الحيلة، وللدولة أيضاً، خاصة وأن الفقر أنجب ما يسمى بالعشوائيات والتي باتت تشكل ضغطاً على الموارد والموازنات الحكومية في مجالات الطاقة والمياه والخدمات الصحية، ناهيك عن الأمراض الاجتماعية الفتاكة كالجريمة والدعارة والسرقة والمخدرات وغيرها، فالفقر مفسدة الضمير، وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: لو كان الفقر رجلاً لقتلته.