أيتها الحكومة ... هنا يوجد مواطنون
منذ أربع سنوات، هربت عشرات العائلات من مدينة داريا على عجالة بعد أن أصبحت المدينة ساحة لمعارك طاحنة لم تتوقف رحاها حتى الآن، فقصدوا مدينة صحنايا المجاورة والآمنة، لعلهم يجدون الملاذ الذي ينشدون.
150 عائلة بلا خدمات
لجأت هذه العائلات لأطراف مدينة صحنايا، وسكنوا في كتل سكنية مؤلفة من عدة أبنية طابقية على الهيكل (بدون كسوة)، جميعها تتبع لجمعيات سكنية توقف العمل بها (وتسليمها أو بيعها) مع بداية الأزمة، ليجدوا فيها السقف الذي يحمي رؤوسهم من الشتاء والصيف، واستطاعوا بجهدهم الخاص تأمين بعض الأنقاض ليصنعوا أبواب ونوافذ لتلك الشقق، فيما تكفلت (شوادر اليونيسف) بترقيع ما أمكن من المساحات التي عجزوا عن تأمين إغلاقه.
ومع استمرار تدفق العائلات لهذه الأبنية وامتلائها عن آخرها، قام أحد الملاكين هناك باستقبال عشرات العائلات في مزرعته الخاصة، والروضة الملاصقة لها، ويبلغ عدد العائلات القاطنة في المزرعة بحدود 20 عائلة و30 في الروضة، فيما تضم الأبنية ما يقارب 100 عائلة، ويعمل الكثير منهم في المعامل القريبة منهم بأجور بات الجميع يعرف بأنها لا تسمن ولا تغني عن جوع.
إلى متى يستمر (التطنيش)
توجهت (قاسيون) لمكان إقامة هؤلاء المهجرين، لتطلع على واقعهم المعيشي والخدمي، والتقت بالعديد من الأهالي هناك الذين بادروا بطرح مشاكلهم ومعاناتهم بلا مقدمات، وكأنهم بانتظار أي أحد ليسأل عنهم أو يسمع منهم أوجاعهم التي يعانون منها والتي تحتاج لمعالجة جدية وسريعة، فالواقع الذي شاهدناه يتطلب ذلك، ولا شيء يمنع من حلها إن توفرت الإرادة لذلك, فالمنطقة تقع ضمن مدينة كبيرة توجد بها مؤسسات حكومية قائمة على عملها ولا يوجد ما يبرر (تطنيش) ما هو حق لهم وواجب على الحكومة.
تخلي تدريجي والأهالي بلا ماء
تبرز مشكلة عدم توفر المياه عن غيرها من المشاكل الأخرى، ويرى الأهالي بأنها أولوية قصوى، وكما علمنا فإن هذا الأمر ليس بجديد أو طارئ، بل هي معاناة ليست مرتبطة بفترات محددة من السنة كما هو حال بعض أحياء صحنايا أو غيرها، بل هي أزمة دائمة على مدار العام، فلا يوجد مصدر مياه يعتمدون عليه كونهم خارج الشبكة الرئيسية، وكانوا سابقاً يحصلون على المياه من صهاريج تبعثها لهم بعض المنظمات الإنسانية التي كانت تضخ مخزونها للخزانات المشتركة الموجودة على أسطح الأبنية، وما لبثت أن انخفضت مرات التعبئة الدورية تدريجياً إلا أن توقفت بشكل كامل منذ سنة تقريب.
ورغم مطالبة الأهالي، للبلدية تارة وللمحافظة تارة أخرى، بتأمين المياه لهم فإن تلك المطالبات ذهبت هباء منثوراً، مما أضطرهم لتأمينها عن طريق الشراء من الصهاريج الخاصة، وبأجور مرتفعة لا تتناسب مع ظروف تهجيرهم القاسية.
الصهريج بقرش وما في قرش
ونتيجة قلة استخدام المياه لعدم توفرها، ظهرت مشاكل أخرى لا تقل خطورة أو ضرراً على الأهالي وأولادهم والبيئة المحيطة بهم، فقلة المياه المستخدمة أنتجت مشكلة أخرى بالصرف الصحي، خاصة بأن أغلب تلك الأبنية لم تؤهل للسكن بعد، مما جعل الأهالي يقومون بدفع رسوم صهاريج الصرف الصحي (صاروخ) كل فترة وأخرى من أجل تنظيف المجاري، وقد بدا واضحاً أثر ذلك من خلال مشاهدتنا لعدد من المجاري المكشوفة وخطوط الصرف الصحي المكسورة التي تحولت لبؤرة من التلوث ومصدر للروائح الكريهة وأسراب الذباب، وأما جولتنا داخل الشقق السكنية تلك فقد ظهرت لنا (أكوام الغسيل والجلي) التي ينتظر أصحابها المياه (من غامض علمه) أو لحين توفر 1500 ليرة في جيبهم ثمنا لتعبئة المياه.
بئر للبلدية أم لليد الخفية
عبر الأهالي عن غضبهم الشديد من إهمال المؤسسات الحكومية المعنية لمشكلة المياه، مقترحين حلاً إسعافياً ريثما يتم الحل الجذري لهذه المسألة، مطالبين محافظة ريف دمشق والبلدية بتخصيصهم بصهريج بشكل دوري يؤمن لهم الحد الأدنى من احتياجاتهم، وقالوا بأنهم سيكتفون ببرميل واحد للعائلة كل ثلاثة أيام، وسيلتزمون بأشد حالات التقنين في حال تم تخصيصهم بحصة من المياه، مطالبين في الوقت ذاته بحل المسألة بشكل جذري من خلال تغذيتهم بالمياه من البئر القريب التابع للبلدية، والذي يبعد بحدود 200 متر فقط عن مكان إقامتهم وإزالة ما يمنع ذلك، وحين سألنا عن ماهية هذا المانع (وشوشنا) أحدهم بحذر بأن البئر المذكور يحتكره أحد المتنفذين بالمنطقة، وبأنه يسقي منه أراضيه الزراعية دوناً عن غيره، قائلاً: «هو بيسقي أراضيه وبيستفيد، ونحنا منموت من العطش».
المطلوب محولة وكبل
تأتي مسالة الكهرباء بالدرجة الثانية، حيث لا يتوفر التيار الكهربائي النظامي عبر الشبكة، بل يعتمدون على الخطوط التي أعطاها إياهم صاحب المزرعة وعلى نفقته الخاصة، وبطاقة منخفضة ولساعات محدودة ليلاً، فلا يستفيدون منها إلا بالإنارة وشحن البطاريات، ويشير لنا بعض الأهالي لبرج التوتر العالي، الملاصق للأبنية، ويقولون بأن الأمر لا يحتاج سوى لمحولة صغيرة على هذا البرج، وبضعة أمتار من الكبلات وسيكون عندنا كهرباء نظامية، وليركبوا لنا ساعات و سعرنا بسعر غيرنا، مستغربين الموضوع برمته ومتسائلين بحرقة عن السبب وراء معاملتهم كمواطنين درجة ثانية أو ثالثة، مستذكرين معاناتهم الأخرى في الشتاء وعدم قدرتهم على تأمين بعض الليترات من المازوت لتدفئة أوصالهم، وقد وافق جميع الحاضرين على مقولة أحد الأشخاص حين قال: «فليحسبوننا في مركز إيواء ويقدموا لنا الخدمات الضرورية، نحنا نزحنا لمكان تحت سيطرة الدولة، فوين الدولة ووين الكهربا ووين المي، ولا نحنا مو مواطنين؟».
مهددون بالإخلاء... لماذا؟
أخبرنا بعض الأهالي، القاطنين في أحد الكتل السكنية المكونة من ثلاثة أبنية، بأنهم مهددون بإخلاء الشقق التي يقطنوها، حيث تلقوا إنذاراً شفوياً من جهات غير معروف مدى رسميتها، قدموا منذ أيام وأعطوهم فترة للإخلاء تنتهي مع اليوم الأول من الشهر التاسع، دون أن يعلموا حقيقة هذا الإنذار المفاجئ وشرعيته القانونية، وعبر الأهالي عن مخاوفهم من طردهم من ملاذهم الوحيد في تهجير آخر لا يسعهم التعامل معه، مطالبين الجهات المدنية المسؤولة عن هكذا شأن بالتدخل والتصرف وفق مصلحة هذه العائلات وضمان عدم تعرضهم للإخلاء أو الإكراه على المغادرة.
أيتها الحكومة... هؤلاء مواطنون
لم يكن خروج هذه العائلات من مدينتهم داريا لمدينة صحنايا إلا خروج المضطر الباحث عن الآمان والحياة، خروج الباحث عن سلطة القانون لا سلطة السلاح، وسلطة الدولة لا سلطة أمراء الحرب، ومن هنا لا بد للحكومة وعبر مؤسساتها كافة أن تمارس دورها بالحفاظ على مواطنيها وعلى حقوقهم المعيشية والخدمية، وأن تتحمل مسؤوليتها كاملة بتأمين الحد الأدنى من الضرورات المعيشية، من ماء وكهرباء ومحروقات، وأن تمنع تهجيرهم مرة أخرى أو إخلائهم قبل تأمين البديل الكريم لهم، ويجب المبادرة لإنهاء حرمان هذه العائلات من الخدمات، بالجدية اللازمة والسرعة القصوى، خاصة أن من عرض مشكلته قد عرض الحل معها، فلا ذريعة لأحد ليتقاعس أو يؤجل