واقع المواصلات بين مساوئ الربحية الفردية وتداعيات القطاع العام!
ما انفكت أزمات المواصلات تتداخل فيما بينها وتتكاثر لتصبح هاجساً يشغل بالَ جميع الناس على اختلاف وجهات نظرهم، وليس غيباً ما يترتب على هذه الأزمات من أزمات أخرى، مثل شحّ الوقود شتاءً، وارتفاع نسب التلوث في المدن، وازدياد الضوضاء التي خير تعبير عنها مقولة: «جعجعة بغير طحين» في عصر باتت قيمة الأفعال تتأتى من نتائجها، واستنزاف وقت المواطنين على الأرصفة انتظاراً لفرصة الصعود (وقوفاً) في حافلة لا تليق بنقل الدجاج، ومن المـُدرَك للجميع أن قطاع المواصلات في سورية بات مشوه الشكل إلى حدّ يبعث على الغثيان، ولعل التفسير الأكثر إنصافاً لمشاكل هذا القطاع يبدأ عند التفريق بين ثلاثة أشكال لملكية وسائل النقل:
1 ـ الملكية العامة التي تمكّن الدولة (عبر مؤسساتها) من الإشراف على الواقع المروري وحلّ مشاكله المتجددة ومن ثمّ إخضاعه لمتطلبات خطط التنمية المتلاحقة، وتدعيم البنى التحتية في البلاد بما يتوافق مع تطوير واقع التخديم والارتقاء به بشكل مدروس.
2 ـ الملكية الخاصة (المقتصرة على حافلات السفر والشحن البضاعي بين المحافظات) والتي تضع عمليات النقل الجماعي تحت إشراف شركات خاصة، مما يسهل لهذه الشركات التراخي في أداء واجباتها المنوطة بها، وطبعاً (بسبب غياب المنافسة الحقيقية أو ابتعادها عن خدمة المواطن) أصبح الشغل الشاغل لهذه الشركات هو اقتناص الأموال مقابل خدمات لا تتجاوز الحد الأدنى من المطلوب والمدفوع ثمنه، لكنها (وللأسف) أفضل مما تقدمه الملكية العامة من خدمات (لأسباب تتعلق باستشراء الفساد والبيروقراطية في دوائر الدولة).
3 ـ الملكية الفردية (الشكل الأكثر انتشاراً، الأسوأ تخديماً، ويعتبر مسبّباً رئيسيّاً لأزمة النقل الراهنة) وهي ما يبعد القطاع المواصلاتي عن أيدي الجهات المشرفة، فيصبح قانون العمل هو مدى حاجة السائق لسدّ احتياجاته المادية، وبالتالي فإنه إما أن يؤمّن (خزكاره) ويخرج من حلقة المواصلات، أو يتعاقد مع إحدى المدارس والمؤسسات الصغيرة ويخرج من هذه الحلقة بعيداً عن أية جهة يبرر لها سلوكه!! وصحيح أن جهود شرطة المرور قد تفلح (نادراً) في تنظيم هذا الشكل الفوضوي من العمل المواصلاتي، لكن لمدة لا تتجاوز الساعات في أحسن الأحوال!..
عليه، فإن ابتعاد الدولة عن تسيير عجلة المواصلات، رغم كونها الأفضل في تسييرها، يضعنا أمام خيارين أحلاهما مرّ، فخيار الملكية الخاصة لوسائل النقل أثبت فشله في تلبية حاجات النمو المتزايد في البلد، وذلك لانفصاله عن خطط التنمية، وخضوعه لمبدأ الربحية دون أي مرادف خدمي مقبول، ولعل شركة «المصري» التي افتتحت عصر خصخصة المواصلات الداخلية، هي أكبر دليل على فشل هذا الشكل من الملكية، لاسيما وأن هذه الشركة عرضت حافلاتها للاستثمار (!!!) مما أعاد المقود إلى القطاع الفردي من جديد. وبما أن الملكية الفردية ساهمت بشكل كبير في تشويه الخدمات المواصلاتية وتسعير الأزمات المتراصة من ازدحامات واختناقات مرورية، إلى هدر في الوقود، وصولاً إلى زيادة نسب تلوث الهواء والضجيج، فهي خيار سيئ بكل المقاييس، فما الحل؟!
ـ البدء بالتفكير العملي الممنهج المستند إلى قراءة نقدية للواقع الذي يسير من سيئ إلى أسوأ، ولابد من وضع ومن ثمّ تبني الحلول الجذرية لمشاكل المجتمع التي تتكاتف محولةً حياة المواطنين عبئاً على الحياة نفسها، وما من أحد قادر على القيام بهذه الدراسة بطبيعة الحال سوى الدولة عبر مؤسساتها المعنية، وهنا يأتي دور القطاع العام ليأخذ المقود من الأيدي العابثة ويصوّب الخطى نحو الطريق القويم اقتصادياً، اجتماعياً، وبيئياً.
ـ السماح بالاستثمار في قطاع المواصلات لكن وفق شروط تحقق الحدّ الأعلى أو المقبول من الخدمات للوطن والمواطن على حد سواء، مما يخفّف من الهدر في الوقود ويساعد على الحد من آثار التلوث وتقليلها قدر الإمكان، وإلزام الشركات الراغبة في الاستثمار بالموافقة على ما قد يترتب عليها من جزاءات حين المخالفة، وعدم السماح لها بتجزئة مسؤولياتها للتهرب من المسؤولية العامة (عبر طرح حافلاتها للاستثمار الجزئي من قبل أفراد مثلاً)..
وحتماً هناك من الحلول الكثير، وليس أغربها أو أصعبها (رغم قدراته العالية) إعادة تسيير خط (الترين) القديم، أو التفكير الجدي بإنشاء شبكة مواصلات نفقية (مترو) على غرار ما تم إنجازه في دول أخرى مشابهة من حيث البنى التحتية.