الحكومة تربي الناس.. دروس حكومية متأخرة للشعب الطائش الطالح..
ما زال التلفزيون المحلي يبث في شريطه الإخباري الدروس التي بدأت الحكومة بمفرداتها إعطاءها للشعب الطالح المبذر المسرف الذي لا ينفك يبدد الثروات الوطنية، كما أنه لا يدع فرصة إلا ويمارس إتلاف الثروة الخضراء من غابات وأشجار، ويبدد ما رزقه الله من ماء عذب، ويرمي ما تبقى من محصول القمح في فم النيران.
حتى هذه اللحظة تصر الحكومة على معاملتنا كتلاميذ يعوزهم التنبيه أحياناً والعقوبة في كثير من الأحيان.
ونحن حتى اللحظة ما زلنا شعباً لا يحترم تعب الحكومة وشقائها في توفير الكهرباء، لبراداتنا، لصحوننا اللاقطة لمحطات الإثارة، لمولداتنا، شوارعنا، لذلك تردعنا أحياناً بالتقنين، أو بالفاتورة الباهظة.. نحن الشعب الطائش الطالح، والحكومة الرشيدة التي ابتليت بنا.
جاء في الشريط الأزرق بالتتالي ما يلي:
* وزارة الزراعة تدعو الإخوة المواطنين للحفاظ على الغابات وحمايتها من خطر الحرائق، والاتصال على الرقم 188 عند حدوث أي حريق؟
* المؤسسة العامة لمياه الشرب والصرف الصحي بدمشق تدعو الإخوة المواطنين للاستخدام الأمثل للمياه، وعدم الإسراف، والمحافظة على الثروة المائية، وتذكر بأن الماء مسؤولية الجميع.
*أخي المواطن الكهرباء في خدمتك خذ منها قدر حاجتك، وهكذا توفر على نفسك دفع قيمة الطاقة المهدورة.
والملاحظة الجديرة بالتوقف والتي تعكس صبر الحكومة ونفسها الطويل وحلمها وصبرها أنها وحتى اللحظة تنادينا وتخاطبنا بود: (الإخوة المواطنون).
في غير وقتها
هذه المرة وكما سابقاتها لم تصب الحكومة ومفرداتها في اختيار الوقت المناسب لدروسها، لا يمكن لأي تلميذ يعضه الجوع وفي الحصة السادسة من الدوام المدرسي أن يتقبل النصيحة من أستاذ حول الصيام وفوائده، لا يمكن كذلك لأب يحمل في اليد اليمنى العصا، وفي الثانية سيجارة حمراء طويلة أن ينصح ابنه بالدراسة وعدم التدخين.
الحكومة العتيدة تتلو علينا في درس متأخر النصائح التي كان من الواجب أن تصنع منها قرارات منذ عقود، درس تدرك الحكومة أنها تقدمه بخجل لمواطن ( تلميذ) يدرك عدم صدق معلمه، أو أنها النصيحة التي يمتلكها ليملأ وقت الدرس الذي لا جدوى منه بعد أن فشل في تحضيره.
تأخر الدرس كثيراً، عن الماء الذي هدر، الكهرباء المسروقة والمبددة على المزارع والحدائق والملاعب، الشبكة المتهالكة والمواطن الذي مد يده خلسة انتقاماً من فاتورة جائرة أو من مفتش لا يأتي بل يسجل على هواه ما صرفه المواطن الذي لا يمتلك سوى تلفزيون أبيض وأسود، وغسالة عادية، وبراد بردى، ومصباح أصفر.
تأخر الدرس عن عدم إتلاف بقايا محصول القمح، بعد أزمات المحصول الاستراتيجي، الأعلاف، الثروة الحيوانية الجائعة.
في الماء
كان بردى هادراً، ودمشق توزع الماء على كل العطشى، لم يكن في خاطر أحد أن الماء الدمشقي يباع للدمشقيين في علب بلاستيكية بعد أن صار الماء ملوثاُ.
تتالت مواسم الجفاف، وتزايد السكان بطريقة مذهلة، هاجرت كل المحافظات إلى دمشق بحثاً عن راتب الوظيفة، وحفرت الآبار بعشوائية في الحوض الدمشقي، حتى تم استنزافه حتى قطراته الأخيرة.
في قلب المدينة، يتباهى سائقو المسؤولين بغسل السيارات السوداء الفارهة بماء نبع الفيجة، في وقت ما زال السوري الطائش التلميذ يحلم بسيارة صينية ولو بالتقسيط غير المريح.
في الريف، كل المزارع العامرة بالمسابح والأشجار المثمرة كانت تروى وتملأ من الماء الدمشقي العذب، في حين ما زال الطائش الطالح بلا سقف، في مهب القروض، البناء المخالف، رشوة المكاتب الفنية للبلديات، رؤوساء البلديات من أجل غرفة مخالفة في الريف البعيد حيث لا ماء نظيف أو مقنن، صهاريج تبتزه، وتسقيه من حيث تشاء وبالسعر الذي ترتئيه.
شبكات المياه التي كلفت الملايين في ريف دمشق، سلمت لمتعهدين بلا ضمير، في قطنا على سبيل المثال مئات الملايين دفنت في الأرض في مشروع شبكة المياه الجديدة بعد أن اهترأت الشبكة القديمة التي يتجاوز عمرها أربعين عاماً، دفنت الملايين التي لم تفلح في ضخ المياه عبر الشبكة الجديدة التي هرب الماء منها.
في السنوات السابقة مارست مؤسسات المياه في المدن والأرياف دروساً ليست ناعمة بحق الطائش من تنكيل بقطع الماء لأيام وأحياناً لأسابيع في خطة مزاجية لترشيد الاستهلاك.
حالياً، وصلنا إلى الماء الملوث، جوائح وبائية سببها الماء الشحيح المليء بالجراثيم، مواسم الجفاف، مع خلطة صرف صحي، الماء الصالح للشرب في كالونات، الماء للغسيل من الصهريج وبـ 200 ليرة، والمصروف الشهري للماء يتجاوز نصف الراتب المهدود لصاحبه.
أما عن الماء مسؤولية الجميع، فلتقل الحكومة في شريطها التلفزيوني بلا خجل في مفرداتها، المسؤولين الصغار والكبار على حد السواء أوقفوا غسيل السيارات، وأوقفوا ملء المسابح بالماء البارد صيفاً والساخن شتاء، أما المواطن المسكين فلا يمكن أن يهدر ماء لا يصل إليه إلا ما ندر، ويدفع ثمنه غالياً، وليس لديه سيارات ولا مسابح.
في الكهرباء
خذ حاجتك، وهل سيبيع المواطن الطائش ما يفيض عن حاجته؟
كما الماء تفننت وزارة الكهرباء في إذلالنا، من التيار الضعيف والمزاجي، التيار الذي أحرق غسالاتنا وتلفزيوناتنا وما لدينا من أجهزة كهربائية تافهة، وأجبرتنا على شراء جهاز كهربائي جديد يدعى (المنظم) واشتريناه بثمن فواتير سنة كهربائية كاملة.
بعد التيار الضعيف مورست علينا كل فنون التقنين، ساعات طويلة في حر الصيف دون كهرباء، التوقيت المفجع لقطع التيار الكهربائي أثناء ممارستنا لمتعنا الصغيرة، كأس العالم، مباريات المنتخب...الخ، ثم التقنين حسب الحارات وبالدور، وكان هدف الوزارة حينها أن نذهب في زيارة أصدقائنا في الجانب المنار وغير المقنن.
ألم يدفع أغلبنا فاتورة صاعقة ولدورة واحدة تصل من 40 - 50 ألف ليرة، بسبب أن المؤشر وضع تأشيرة دون أن يقرأ العداد منذ سنتين، لأنه غير موجود إلا في سجلات الوزارة (مفيّش)؟.
أما عن حاجتنا إذا لم تكن الوزارة تعلمها، براد، تلفزيون، غسالة، مكواة لمرة واحدة لجميع ملابس العائلة دفعة واحدة، وشاحن موبايل نوكيا... وليس لدى أغلبنا مكيفات.
أما عن المزارع التي تسخن الماء للسباحة، الإنارات العالية في محيطها، المعامل التي تستهلك كفاتورة مواطن، الأدوات الكهربائية الحديثة في البيوت الرخامية... الخ، هؤلاء لا يستحقون النداء.
ملاحظة: قد يكون بعض الفقراء مارس السرقة للتيار الكهربائي ليسخن الحمام البدائي على الكهرباء بدل المازوت، هذه جريمة تستحق العقاب، ولكن أليس من حق الحكومة على المواطن إن كان جائعاً أن لا يكون نظيفاً في أبسط الحالات؟
في الغابات
ثمن السيران لم يعد متاحاً للطائش، السبب أن الفلاحين الذين كانوا أيام عزهم يستقبلون الناس في بساتينهم مجاناً، ويسمحون لهم بأكل (الجارنك والعوجة)، والمشمش والعنب، بطيب نفس ومن دون أية إيماءات تذمر، ما عادوا في عزهم.
لكي تدخل البستان الذي صار متنزهاً بطاولات وكراس صار لا بد من دفع الثمن، كذلك ستدفع ثمن الأرجيلة والماء المعبأ، فبردى صار ساقية سوداء، وتفوح منه رائحة الصرف غير الصحي.
الأمر الأكثر أهمية إذا كانت غوطة دمشق حتى الآن تعتبر من الغابات والأماكن التي يجب الحفاظ عليها، فهل تعلم الحكومة ومفرداتها من وزارة الزراعة والاتحاد النقابي الفلاحي بأعضائه الذين لم يبق من فلاحيتهم سوى اللباس الفلكلوري، هل يعلمون أن فلاحي الغوطة صاروا مثل كل فلاحي سورية من أفقر الشرائح في سورية، وأنهم يبيعون شجر الحور خشباً ليعتاشوا، وأن الطلب في ظل غلاء المازوت على حورهم في تصاعد وازدياد؟
أما البشرى التي نزفها للحكومة نحن الشعب الطائش، أن قلة منا ما زالت تستطيع الذهاب في الصيف إلى صلنفة وكسب، الذين يذهبون وحدهم من يجب أن ينتبهوا عند ممارسة لذاتهم في الشواء والبذخ أن لا يحرقوا الغابة، وقلتنا تدخن الحمراء بأنواعها وهي لا تكاد تحرق نفسها، لكن الدخان المستورد، أو الذي يباع بالدولار في السوق الحرة فهو سريع الاشتعال ويحتاج لتحذير بعدم رمي أعقابه في الغابات.
أما في ريف دمشق فقد صارت المناطق الخضراء شبه قاحلة.. لا ماء ولا زرع.. الجفاف هو السيد المطلق.
نداء معاكس
نحن الشعب الطائش.. لا شريط أزرق لدينا لنخاطبكم نداً لند، ونحن لسنا نداً.
لكن اسمحوا لنا.. لسنا من تقصدون في ندائكم، لا ماء عندنا لكي نسرف، كهرباؤنا على قدنا، وبالكاد نستطيع تحمل وزر الفواتير.
إلى الغابات لم نعد نذهب، لأن الغلاء والفقر يحولان البشر إلى كائنات لا ترى أبعد من لقمتها الجافة.
لن نحرق بقايا محصول القمح، لأن حيواناتنا ذات الخصور الضامرة أحوج إليها من ألسنة النار.
كنا مقصودين.. لو شبكات الكهرباء وأعمدتها والتوتر العالي لا يهددان بيوتنا وأطفالنا، لو لم تكن الشبكة المذكورة كخيوط العنكبوت في تشابكها، في المفرقعات التي تصدرها مع النيران مع أول هبة ريح وأول زخة مطر نادرة.
لو شبكات المياه الجديدة صالحة ولا تغور المياه فيها، لو أن ماءً فيها.
لو كان بإمكاننا التنزه في الغابات، فالبعض مات ولم يفرح بالخروج من حارته العشوائية الضيقة.
في كل الأحوال نشكركم.. على النصيحة المتأخرة.