الرأسمالية التجارية والشكل المنحرف العقيم للاستثمار الرأسمالي!!

لم يعد من المجدي المطالبة بإصلاح اقتصادي اجتماعي المحتوى، وتحقيق تنمية ترمي إلى تحسين المستوى المعيشي، وتحد من البطالة والفساد، لم يعد كل ذلك مجدياً أمام ما يجري من تحولات اقتصادية، تصب في اتجاه المزيد من الاندماج في الاقتصاد العالمي.

آفاق التجربة..

نعم، نقول لم يعد مجدياً تقديم مطالبات، لأن التوجهات الاقتصادية الحكومية اختارت بشكل واضح التجارة الداخلية والخارجية والخدمات، بمختلف وجوهها وتشعباتها، لذلك يقوى الآن ساعد الرأسمالية، وهي ليست رأسمالية زراعية، وليست رأسمالية صناعية، بل رأسمالية تجارية، ولأن التجارة مهما كانت مربحة فهي محدودة، وتعوض هذه المحدودية بالتوسع الأفقي، وتستحدث استيطانها واستطالاتها مهددةً المجتمع كله بشمول هذه الظاهرة وطغيانها، كشكل منحرف وعقيم من أشكال الاستثمار الرأسمالي. ولم يخطر ببال راسمي السياسات الاقتصادية السؤال المقلق حول طبيعة الدور الاقتصادي للرأسمالية، وما هو الفرق بين أن تكون تجارية فقط، أو أن تكون صناعية إنتاجية.

دخول الرأسمال الوطني في الاستثمار الزراعي والصناعي، يعني «استيطانه» في الاقتصاد الوطني، وخروجه منه، ودخوله ميادين التجارة والخدمات والوساطة والسمسرة وغيرها. يعني «اغترابه» عن الوطن، لأنه يصبح رأسمالاً مائعاً غير ثابت، غير منتجٍ زراعياً أو صناعياً. يضاف إلى ذلك أنه يوسع ميدان نشاطه على حساب التوسع الأفقي للزراعة والصناعة، ويشل بسيطرته ونفوذه السوق، ويضرب القطاع العام الإنتاجي، ويخلق الأزمات المعيشية في المجتمع. 

أين الأحزاب؟

حزب البعث وكال أحزاب الجبهة في سورية، نبهت في أدبياتها إلى الخطر الذي تمثله الرأسمالية الطفيلية والتجارية، وإلى محاولاتها (المتكررة) لإثبات وجودها في السنوات الماضية، عبر تخريب دور القطاع العام، وفرض علاقات اجتماعية وإنتاجية متخلفة، وإقامة مجتمع خدماتي استهلاكي يسهل مرورها.

لقد دأبت هذه الأحزاب على القول: (مصالح الرأسمالية الوطنية مرتبطة بالوطن، وموظفة فيه بمشروعات ومستلزمات إنتاج، وهي تحارب تسلط أي رأسمال خارجي على الميادين التي تتحرك فيها مصالحها واستثماراتها، ولكن الأمر يختلف مع الرأسمالية التجارية وأشكالها، لأن مصالحها مرتبطة مباشرة بالرأسمالية الأجنبية، التي لا تهتم سوى بفتح الأسواق أمام منتجاتها. ويبدو بشكل واضح أن الرأسمالية التجارية هي الوسيط والسمسار لهذه الرأسمالية الأجنبية، وقد أصبحت مواقعها الآن في المقدمة، على حساب الصناعة في القطاعين العام والخاص، وعلى حساب الدولة والمجتمع بكامله)

 وهنا نقول: إذا كانت أدبيات حزب البعث وأحزاب الجبهة قد نبهت إلى ذلك، بل أن أيديولوجياتها تمثل نقيض ما يجري على الساحة الاقتصادية. فأين دورها الآن؟ هذا مجرد سؤال بريء!! 

أين النقابات؟

كل الخطوات التي تتخذ من الحكومة واضحة، وهي تسير في سياسة اقتصادية جلية المعالم: لا استثمارات في القطاع العام، لا إصلاح لشركاته ، تراجع في الزراعة خوفاً على المياه، وعلى الأرض تسهيلات وإعفاءات للفئات الطفيلية، بطالة.. تراجع أجور.. فساد.. ارتفاع مستلزمات الإنتاج.. تراجع معدلات النمو.. رفع الدعم.. عجز مؤسسات الدولة.

ومازالت الحكومة ماضية في طريقها الواضح هذا، دون أن تستمع لأي رأي أو نقد، رغم كثرة الحوارات التي عقدت واللقاءات التي جرت مع أحزاب الجبهة ومع النقابات العمالية، والتي طُرحت فيها آراء ومداخلات جريئة من النقابات، واقتصر رد الحكومة على التبرير، ومن ثم اتخاذ القرارات التي تعجبها.

والسؤال هنا: ألا يستوجب هذا موقفاً صلباً من النقابات العمالية، التي تتفرج الآن على الحقوق المكتسبة للعمال وهي تتآكل، وعلى الاقتصاد الوطني وهو يتمزق؟ هذا سؤال بريء أيضاً. 

مفهوم الإصلاح

المفهوم العام لسياسة الإصلاح الاقتصادي في الفكر النيوليبرالي المعاصر، يمكن أن يعني أي إجراءات تتخذها الحكومة، تساهم في تشكيل النشاط الاقتصادي على أساس آليات السوق الحرة، ويمكن أن تبدأ هذه الإجراءات من تحرير الأسعار في قطاع معين ولسلعة معينة، إلى بيع وحدات القطاع العام إلى القطاع الخاص، أو ما يطلق عليه «الخصخصة»، والبنك الدولي نفسه حدد مفهوم وحدود ومجال عملية الإصلاح الاقتصادي، على أنها تحتوي المتغيرات الاقتصادية الكلية والجزئية وتشمل عملية الإصلاح، وخاصةً في القطاع العام، وتحتوي على تغيرات جذرية في منهج الدولة السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بحيث تتضمن هذه العملية الديمقراطية السياسية، وهويةً اقتصاديةً تؤدي إلى تغييرٍ في سلوك الأفراد. وفي هذا الإطار تُتخذ سياسات مالية ونقدية منها: إصلاح النظام الضريبي، ورفع كفاءة تحصيل الضرائب، وإعطاء وحدات القطاع العام حرية تسعير منتجاتها على أسس اقتصادية سليمة، بعد إصلاح واقعها، بالإضافة إلى سياسات  أخرى، على صعيد التجارة الخارجية، والسياسة السعرية، و تصحيح آليات القطاع الخاص، وتحريره مع القطاع العام من القيود والمعوقات، وإجراءات أخرى عديدة حددها البنك الدولي. 

ولكن... لا تقربوا الصلاة!!

أخذت الحكومة جانباً من هذا المفهوم «الإصلاحي» في ضربةٍ صاعقة، وتركت جوانب أخرى. البلدان النامية، ومنها مصر تحديداً،ً سارت في اقتصاد السوق منذ بداية السبعينات من القرن الماضي، واستمرت فيه حتى التسعينات، وهذا لا يعني أن التجربة المصرية ناجحة في هذا المجال، فلقد واصلت السير في خطوات متدرجة، وفق برنامج استراتيجي وضع بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، واستهدف هذا البرنامج الذي طرح عام 1993 ما يأتي:

-زيادة استخدام الطاقات المتاحة لدى شركات قطاع الأعمال.

-الحد من استنزاف الموارد المالية، وتحقيق مستوى أفضل لاستخدامها.

-إتاحة الفرص للاتصال بالأسواق الخارجية، والحصول على التقنيات الحديثة، وجلب رؤوس أموال للاستثمار.

-توسيع قاعدة الملكية بين المواطنين، زيادة فرص العمل، تنشيط سوق المال.

مصر رضخت لشروط ونصائح البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ونادي باريس، وهي تعاني الآن ما تعانيه، ولكن الإجراءات التي اتخذت في مصر، والتي استمرت لمدة 20 عاماً، كانت معلنة، أما في سورية فهنالك ازدواجية في الخطاب الاقتصادي، منذ سنوات تقول الحكومة أمام النقابات وأحزاب الجبهة: (لا خصخصة، ولا بيع للقطاع العام، ولا تسريح لأي عامل، ولا انتقاص من الحقوق المكتسبة، ولا رضوخ للبنك الدولي) ولكنها من الناحية الأخرى، تتخذ إجراءاتٍ معاكسة، باسلوبٍ غير متدرج، وإنما بالصدمات الكهربائية، يرافق ذلك التبشير بحزمة ضمانات اجتماعية (صناديق رعاية وبطالة، وضمانات للشباب والعمال والمرأة) ولكن في عام 2015 أو 2020، ومازال أولادنا ينتظرون، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا !!!!

■ نزار عادلة

آخر تعديل على الثلاثاء, 29 تشرين2/نوفمبر 2016 22:21