في ظل الفساد والسياسات النيوليبرالية.. قطاع التعليم والفقراء يدفعون الثمن مضاعفاً
يعد الاهتمام الرسمي الفعال والمثمر بالعملية التعليمية والتربوية في أي بلد، أحد أبرز مؤشرات جدية حكومة هذا البلد تجاه حاضر ومستقبل أبنائها، ولاسيما أن العقل البشري يقدم لنا كل يوم ما هو جديد، والسبيل الوحيد لمواكبة هذا الجديد والتفاعل معه هو الارتقاء بمستوى التعليم. ولكن واقع الحال في سورية يقول: إن العملية التعليمية -التربوية في عموم البلاد تتراجع عاماً بعد عام، بشكل يتناقض واتجاه تطور العلم والعقل البشري والحضارة البشرية، وبعكس مصلحة البلاد حاضراً ومستقبلاً.
لقد لعب مبدأ مجانية التعليم وإلزاميته, دوراً هاما في توفر عشرات الآلاف من الكوادر العلمية والمهنية والخدمية من أبناء الفئات الشعبية التي ساهمت في تطور وتنمية البلاد، ولكن مع تغلغل علاقات الإنتاج الرأسمالية ذات الطابع الطفيلي، وسيادة نمط التفكير الاستهلاكي، وتفشي الفساد طولاً وعرضاً، تراجع الاهتمام بالعملية التعليمية والتربوية ضمن حالة التراجع العام الذي شمل جوانب العملية التنموية الحقيقية كافة. فالحكومات المتعاقبة بادرت إلى تخفيض حصة التعليم من الموازنات العامة بشكل مطرد، بينما كان من المفترض أن تزداد كنتيجة منطقية لزيادة عدد السكان, وتزايد حاجات العملية التربوية التعليمية. وترافق ذلك مع سياسة قبول في الثانوية العامة والمرحلة الجامعية ليس لها مثيل بالعالم من حيث العلامات المطلوبة للقبول في هذا الفرع الجامعي أو ذاك، أو من حيث طريقة وإجراءات القبول. ودخل على الخط التعليم المأجور بأسمائه المختلفة بدءاً مما سمي بدورات التقوية، مروراً بالدورات الخاصة، وانتهاءً بالتعليم الخاص المتمثل بالمعاهد والمدارس الخاصة. وإذا كان نشاط هذه (الصرعات) يقتصر في البداية على أبناء الأسر الميسورة، فإنه مع مرور الوقت والتراجع المستمر في دور مؤسسات التعليم الرسمي، أصبح التعليم المأجور أمراً واقعاً، فكل طالب شهادة (تعليم أساسي، ثانوية عامة) بات يكلف ذويه عشرات آلاف الليرات السورية, الأمر الذي أطاح عملياً بمبدأ مجانية التعليم، وفي ذلك مخالفة صريحة وواضحة لدستور البلاد، ولاسيما أن ظاهرة التعليم المأجور باتت سمة عامة لكل مراحل العملية التربوية التعليمية، وبدأت تمتد حتى إلى الصفوف الدنيا لمرحلة التعليم الأساسي.
إن استمرار الوضع كما هو، سيطيح بمبدأ ديمقراطية التعليم نهائياً بعد أن نال منه ما نال، وبعد أن كادت السياسة الاقتصادية الليبرالية وأمّهُا الفساد، أن تحوّل الوطن إلى (سوبر ماركت) كل شيء فيه بمثابة بضاعة قابلة للبيع والشراء بما فيها التعليم، وما استفحال ظاهرة التعليم المأجور بمسمياته المختلفة، والتسرب المستمر من مرحلة التعليم الأساسي, والانقطاع المبكر عن الدوام بالنسبة لطلبة الشهادتين الإعدادية والثانوية، وحالة الاغتراب التي يعيشها الطلبة تجاه المؤسسات التعليمية، إلا مؤشرات عملية على تراجع دور مؤسسات التعليم الحكومي، وعجزها عن القيام بالمهام المنوطة بها، وإخلاء الساحة لمصلحة التعليم الخاص، وهي بالتالي خصخصة غير معلنة لقطاع التعليم، وهذا ما سيفضي في النهاية إلى النخبوية في التعليم، أي اقتصار التعليم على من يستطيع الدفع أكثر، وما أقل من يستطيع الدفع في هذه البلاد! لا بل إن الوقائع تشير إلى إن المدارس الرسمية أصبحت بمثابة مكتب خدمات لمصلحة التعليم الخاص، فمن خلال المدارس الرسمية (يصطاد) بعض المدرسين الطلبة، إما لمصلحة الدروس الخصوصية أو لمصلحة معاهد التعليم الخاصة، مع تقديرنا لمن مايزال يحترم شرف المهنة.
ومع يقيننا بأن المشكلة ليست خاصة بالقطاع التعليمي، بل إن واقع هذا القطاع هو انعكاس للواقع الاقتصادي الاجتماعي والسياسي في البلاد، فإن المطلوب اتخاذ جملة إجراءات إسعافية تضع حداً للتراجع المستمر في هذا القطاع أهمها:
- رفع المستوى المعاشي للمعلم باعتباره الركن الأساس في العملية التربوية التعليمية، واعتبار ذلك مجرد خطوة أولى حتى لا يصرف المعلم جل جهده في التعليم المأجور, وتوفير مستلزمات إعادة تأهيله مهنياً وتربوياً.
- إعادة النظر بالموافقات التي منحت لافتتاح المدارس والمعاهد الخاصة إلا في حالات الضرورة.
- تغيير الخارطة الصفية في مرحلة التعليم الأساسي على الأقل، باتجاه تخفيض عدد التلاميذ ضمن الشعبة الصفية الواحدة.
- اعتماد مبدأ الكفاءة المهنية، والنزاهة في تعيين الجهاز الإداري, والكف عن التعيين على أساس الانتماء الحزبي أو قوة النفوذ، فالعديد من الوظائف الإدارية باتت إما (تنفيعة) لذوي النفوذ، أو لمن يدفع المعلوم.
- تعديل المناهج المدرسية باتجاه التخلص من الحشو المعلوماتي الممل، ونحو تعميق التفكير العلمي والبحثي، والتخلص من مسألة تسييس بعض المواد إلا فيما يتعلق بتعزيز الروح الوطنية.
- تزويد مؤسسات التعليم الرسمي بمنجزات العقل البشري الحديثة في المجال التربوي, وأساليب التدريس وطرائقه ووسائله.
- جعل مادة المعلوماتية مادة أساسية في كل مراحل التعليم، وتامين الكادر المؤهل لذلك تماشيا مع روح العصر.
- تفعيل دور المرشد الاجتماعي, خصوصاً مع تنامي حالات الانحراف بين الجيل، والتأكيد الدائم والصارم على منع الإيذاء النفسي والجسدي.
- إعادة النظر بسياسة القبول الجامعي التي أصبحت عائقاً أمام تحقيق طموحات كثير من الطلبة في استكمال التحصيل العلمي, فما معنى أن يدرس شاب اثني عشر عاما دون أن يلقى بعدها أبواب الجامعات أو المعاهد مفتوحة أمامه؟
- فتح باب التوظيف أمام جميع الخريجين دون استثناء، فالعمل المناسب يجب أن يكون النهاية المنطقية للدراسة، لأنه يمنح المتعلم فرصة تأمين مورد رزق من جهة، وفرصة المساهمة في تطور البلاد وتقدمها من جهة أخرى.
- تفعيل دور نقابة المعلمين، التي تحولت إلى نقابة خدمية، مع أهمية الجانب الخدمي، إلا أن الدور المنوط بالنقابة أكبر من ذلك، إذ يجب أن تكون شريكاً فعلياً في الإشراف على العملية التربوية والتعليمية بكل جوانبها، وخصوصاً دورها الرقابي, وعلى الأخص الدفاع عن حقوق أعضائها.
إن حق التعليم عدا عن كونه حقاً طبيعياً من حقوق البشر، فإنه في عصر الثورة المعلوماتية أحد مكونات البنية الوطنية، ومن مقتضيات المصلحة العامة، ومن هنا كان التأكيد الدائم على أن الاهتمام بقطاع التعليم ضرورة وطنية بامتياز.