فن الضرورة
مقال الزميل د. محمد سماق يضع قضايا تستحق النقاش على بساط البحث، وبما أن خلاف الرأي يجب ألاّ يفسد للود قضية، فأرجو أن يتسع صدره لرأي مخالف لما طرحه..
أولاّ: حول فلسفة الممكن؛ الممكن تحدده الضرورات، والضرورات يحددها الواقع الموضوعي ومتطلباته.. ومتطلبات هذا التعامل من نوعين لا ثالث لهما؛ إما التكيف مع هذا الواقع والاستكانة والاستسلام له، أي التكيف السلبي، وإما التعامل معه من أجل تغيير شروطه وتغييره بمختلف الوسائل والأشكال، وهذا يسمى بالتكيف الإيجابي..
وتحديد أي من النوعين من التعامل يجب اتباعه تحدده المصالح الوطنية العليا والمبادئ والمثل والأخلاق..
أي بكلام آخر إذا دخل الواقع الموضوعي في تناقض مستعص مع المبادئ فأيهما نختار؛ التكيف السلبي أم الإيجابي مع الواقع؟
اليوم، من موقعنا الذي وصلنا إليه بعد كل التجارب التاريخية التي مرت بها بلادنا وشعبنا، بل كل البلدان والشعوب، نرى أن تياري التكيف مع الواقع كانا في صراع مستمر، وليس الغريب أن الذي كان ينتصر في نهاية المطاف هو تيار التكيف المقاوم، رغم هزائمه المؤقتة أحياناً، وليس غريباً أن الذي يهزم نهائياً هو التيار السلبي رغم انتصاراته المؤقتة في بادئ الأمر أحياناً..
نعم، لقد كان يوسف العظمة نشازاً.. ولكنه أسّس للانتصار اللاحق، ونعم لقد كان كل من قاوم الاستعمار في أي زمان ومكان من الخوارج، إنما في بداية الأمر، ولكن في النهاية فقد كانوا ضمير وشرف شعوبهم التي التفت حولهم في نهاية المطاف..
فلنأخذ مثال جميع المقاومات في العالم، كيف تبدأ؟ بأقلية صغيرة.. ولكن هذه الأقلية بإرادتها وصمودها تقوم بتغيير موازين القوى..
وكي لانبتعد كثيراً في غياهب التاريخ، سورية نفسها منذ تغير ميزان القوى العالمي في أوائل التسعينيات؛ من هي؟ أليست نشازاً ومن الخوارج؟ لو كانت ستستخدم منطق الممكن في ظل الاختلال الخطير بميزان القوى الدولي فأين كانت اليوم؟ إن استمرار سورية في الدفاع عن ثوابتها الوطنية رغم كل الصعوبات كان أحد العوامل التي غيرت ميزان القوى في المنطقة على غير ما كان عليه منذ عقدين، وعقد من الزمان..
لذلك، وانطلاقاً من التجربة الملموسة يتبين أن الضرورة هي التي تملي الممكن وليس العكس..
ثانياً: حول الهزيمة والنصر؛ من هو المهزوم، ومن هو المنتصر؟
هل من الصحيح اليوم القول إن القوى التي هزمت الاشتراكية في أوائل التسعينيات هي المنتصرة حتى اليوم؟
لاشك أنها انتصرت في ذلك الحين، ولكن إلى متى استمر انتصارها؟ هل هو قائم اليوم؟ ألم يتغير العالم منذ ذلك الحين حتى الآن؟
اليوم نشهد الأمور التالية التي لها دلالات عميقة وستذهب بعيداً في التاريخ:
1 ـ انهيار النظرية النيوليبرالية نظرياً وعملياً، وريثة شعار «دعه يعمل دعه يمر» لصاحب الجلالة رأس المال.. ليس بقولنا وإنما باعتراف أصحابها بأشكال مختلفة.
2 ـ الأزمة الاقتصادية الرأسمالية العالمية الحالية التي تزداد عمقاً، والتي لم يظهر الضوء بعد في آخر نفقها حتى هذه اللحظة.
3 ـ المأزق الاستراتيجي السياسي- العسكري للإمبريالية الأمريكية في منطقتنا، وبالذات من قزوين إلى المتوسط، الذي يزيدها تخبطاً، ويرفع لديها الرغبة في المغامرة، لعل وعسى يتوفر المخرج من المأزق.
4 ـ الفشل الذريع للممارسات الاقتصادية الليبرالية في سورية والتي أعادت البلاد إلى ما وراء السبعينيات من القرن الماضي في مواجهة التحديات الكبرى المنتصبة أمامنا داخلياً؛ من منع تدهور مستوى المعيشة إلى مكافحة البطالة، إلى تحقيق معدلات نمو معقولة.
اليوم ترتسم أمامنا بوضوح معالم هزيمة الإمبريالية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً على المستوى العالمي.
وترتسم أمامنا بوضوح معالم هزيمة النموذج الاقتصادي الليبرالي الذي حاولت أن تفرضه على الجميع بعد انتصارها القديم في أوائل التسعينيات.
وأخيراً: ترتسم أمامنا بوضوح معالم الفشل الذريع للسياسات الليبرالية الاقتصادية في سورية.
والخلاصة التي يجب أن نعترف بها ونأخذها بعين الاعتبار أن الذي انتصر البارحة دخل في طور الهزيمة، وأن الذي هزم البارحة من شعوب وأفكار ومُثل دخل في طور الانتصار.
أعتقد أنه على أساس ذلك يمكن أن نبني للماضي والمستقبل.. أما الكلام عن انتصار الرأسمالية وهزيمة الاشتراكية فقد أصبح قديماً وتجاوزه الزمن الحالي..
ثالثاً: حول قوى السوق وإطلاقها (سورية نموذجاً)؛ فلنسمّ الأشياء بمسمياتها، المقصود بقوى السوق في كل الأدبيات المتخصصة وغير المتخصصة هو قوى الرأسمالية.. أما تعبير السوق فهو التسمية الحركية لقوى الرأسمالية التي يصعب في بعض الأحيان لفظها والترويج لها نتيجة الشحنة السلبية التي تخلقها في الوعي الاجتماعي..
لذلك من المطلوب الإجابة عن الأسئلة التالية، كي نحدد موقفنا انطلاقاً من مصلحة البلاد العليا من قوى السوق:
• هل قوى السوق الداخلية تتحرك بمعزل عن قوى السوق العالمية، ومن يحرك من؟ ومن يتبع من؟ وهل تستطيع قوى السوق الداخلية أن تتحرك خارج المنظومة التي تفرضها قوى السوق العالمية من حيث تقسيم العمل والأرباح؟ وتحديد اتجاه التطور اللاحق بالعلاقة بين المركز والأطراف؟
• في ظل الأزمة العالمية، هل بمقدور قوى السوق المحلية تأمين النمو الضروري للاقتصاد الوطني للحفاظ على الأمن الوطني للبلاد، في ظل وضع يعاني منه كل الاقتصاد العالمي من نمو سالب عملياً؟.
• هل مستوى العدالة الاجتماعية المتحقق على الأرض يسمح بمزيد من تمركز الأرباح في يد قوى السوق؟
إن الجواب عن كل هذه الأسئلة واضحٌ، وهذا أصلاً يستتبع سؤالاً أهم من كل الأسئلة أعلاه: هل تريد قوى السوق أصلاً أن تتحرك، وأن تنطلق، وأن تستفيد من كلّ الهوامش التي فتحت لها مؤخراً ولم تستخدمْها بكامل حجمها عملياً في ظل نظام سياسي كانت وماتزال تعتبره غريباً عنها ولا يطمئنها رغم كل التطمينات؟
إن قوى السوق تريد نظامها السياسي الضامن لأرباحها وغير ذلك هو وهمٌ وقبضٌ للريح..
وأعتقد جازماً أن الزميل د. محمد سماق البعثي المعروف، ليس بوارد تقديم هذا التنازل لقوى السوق.. وهي لن تقبل عن ذلك بديلاً..
لذلك فلنبحث عن مخارج أخرى لتأمين النمو الحقيقي والعدالة الاجتماعية الضرورية، نمو حقيقي يستند إلى موارد حقيقية موجودة في البلاد، ولكن لا يتم تعبئتها ولا توظيفها.. وعدالة اجتماعية معقولة لا تكون بحاجة إلى صدقات من ذوي الأرباح المنتفخة.. إن زيادة الأغنياء غنى ليس محفزاً للنمو، بل قاتل له وللاستقرار الاجتماعي وللأمن الوطني.
إن البلاد بحاجة إلى صياغة نموذج اقتصادي جديد، وهو ممكن، وظروفه الموضوعية جاهزة وقواه البديلة ناضجة.. فلننطلق من الضرورات ولنكيف الإمكانيات معها..