فن الممكن

د. محمد توفيق سماق

عن الزميلة الثورة.. الثلاثاء 24-8-2010م

فن الممكن هو التعريف الذي أعطاه للسياسة كليمنيس فون مترنيخ وزير خارجية النمسا ومستشارها على مدى سنوات عديدة في النصف الأول من القرن التاسع عشر (عاش خلال الفترة 1773-1859). في ذلك الزمن حاول مترنيخ بهذا التعريف الدفاع عن سياسة النمسا المرنة في تعاملها مع نابليون بونابرت الذي اجتاحت جيوشه القسم الأعظم من أوروبا ولم يوقفها إلا هزيمتها على أبواب موسكو عام 1812.

الاستعانة بمترنيخ وتعريفه الأشهر للسياسة ليست الغاية منها استحضار التاريخ انما توظيفه فيما يخدم إيجاد صيغة مرنة للتعامل مع الاجتياح الرأسمالي للعالم بدوله ومجتمعاته.‏

بسقوط الاتحاد السوفييتي نهاية عام 1991 سقط نمط حياة اقتصادي واجتماعي سمي في حينه بالنمط الاشتراكي وانتصر نمط حياة آخر عرف بالنمط الرأسمالي أو الليبرالي كما يحلو اليوم للبعض تسميته.‏

من طبائع الأشياء أن يكون للهزيمة ثمن وللنصر جوائز. ثمن الهزيمة كان سقوط منظومة الدول التي ارتبطت بالاتحاد السوفييتي واهتزاز الثقة بمقولات اشتراكية كانت لعقود طويلة فوق الشبهات واتصفت لدى أجيال متلاحقة بما يشبه القدسية، مثل الحتمية التاريخية لسقوط الرأسمالية- الصراع الطبقي- الملكية العامة لوسائل الإنتاج.... وما شابه.‏

ومن جوائز النصر الرأسمالي كانت سيطرة رأس المال على قرارات الدول وملكية مجتمعاتها من خلال الخصخصة التي تمت وتتم بأشكال مختلفة أبرزها خصخصة الملكية وخصخصة الإدارة.‏

خصخصة الملكية عن طريق بيع أصول القطاع العام إلى القطاع الخاص أو استثمارها من قبل القطاع الخاص. كذلك مشاركة الدولة للقطاع الخاص في ملكية مؤسسات وشركات القطاع العام من خلال ما يسمى بالتشاركية. أما خصخصة الإدارة فكان من أوضح مظاهرها العهدة إلى شركات إدارة من القطاع الخاص إدارة شركات ومؤسسات القطاع العام أو الاستعانة بما يسمى خبراء لإدارتها.. وغير ذلك.‏

بصرف النظر عن أسباب الهزيمة والنصر وكذلك الرأي فيهما، فإنهما اليوم من حقائق الحياة التي تفرض على الجميع مؤيدين ومعارضين، راغبين وكارهين التعامل معها.‏

التعامل الممكن في الزمن الراهن- وفق ما أرى- هو إطلاق قوى السوق وتوفير المناخ الملائم لرأس المال للعمل والاعتراف بحقه في الربح.‏

بالمقابل وحتى لا تترك غالبية المجتمع من الفقراء مادياً والضعفاء اجتماعياً لأقدارهم على الدولة التوسع في شبكات الحياة أو ما يسمى أحياناً بشبكات الأمان الاجتماعي التي تشمل الصحة، التعليم والضمان (مشافي وجامعات ومدارس مجانية - تعويض بطالة- ضمان اجتماعي.. وغير ذلك)، على أن يتم تمويل تلك الشبكات من موارد الدولة من الضرائب والرسوم التي تجبى من الجميع في القطاعين العام والخاص وفق نظام تكليف ضريبي عادل.‏

جملة القول: لندعٍ رأس المال يمر، ولندعه يعمل- كما يقول منظرو الرأسمالية- لكن لندعه يعرف، ويعترف بأن للمجتمع في أرباحه حق يستوفيه بالضرائب والرسوم.‏

ذلك هو الممكن الوحيد حالياً لأنه الممكن الذي يضمن التكيف مع العصر ويساعد على حفظ توازن المجتمع واستقراره بأغنيائه وفقرائه، أقول الوحيد لأن خلاف ذلك قد يعني الخروج من العصر أو  الخروج على العصر.‏

أليس عصرنا هو عصر رأس المال؟ ثم ألا تعلم تجارب الحياة بأن خوارج كل العصور كانوا نشازاً مهزومين؟‏

آخر تعديل على الإثنين, 25 تموز/يوليو 2016 14:50