في ظل ضعف القدرة الشرائية: مائدة إفطار المواطن السوري بين ضفتي الحاجة.. والبذخ

رغم التجانس والتآخي بين مكونات فسيفساء المجتمع السوري، إلا أنه برزت لكل منطقة أو محافظة عاداتها وتقاليدها وأسس تعاملها الخاصة مع ظروف شهر رمضان، وهذه العادات والتقاليد قديمة وعريقة متوارثة عن الأجداد، وتحكي روح التراث والأصالة والمحبة والتواصل الاجتماعي والأخلاقي والحياتي، وتركت أثراً في إفراز وتداول عادات وتقاليد في الغذاء واللباس والمسكن، الأمر الذي أعطى لنسيج التراث الثقافي والاجتماعي في سورية طابعاً مميزاً.

 

رمضان ما قبل التاريخ

فقبل سنوات كان السوريون على اختلاف أماكن وجودهم يتلهفون لقدوم شهر رمضان، ليجتمعوا حول موائد الإفطار الشهية التي كانت في دمشق غنية بالمأكولات الشائعة المحضَّرة من الخضار واللحم والسمن العربي، مثل الكبة والمحاشي ومختلف أصناف الأطعمة المحليَّة كالبيض والجبن والزيتون والمربيات والزعتر، وترافقها الحلويات كالبرازق والغرَيبة والعجوة والعوامة والقطايف، ولا تخلو مائدة الإفطار من شراب العرقسوس والتمرهندي. وفي المحافظات الساحلية كانت تسود وجبات السمك مع الرز والخضار واللحوم، ويكثر استهلاك الحلويات الخاصة بالساحل كالجزرية، وكذلك الحال في المحافظات الوسطى، فإلى جانب الكبة والمحاشي تسود أطباق الحلويات الشهيرة بالشعيبيات، وفي حلب كانت تتنوع المائدة وتحوي الكثير من الأصناف الغنية من أنواع الكبة الصاجية والمقلية واللبنية والمشوية والحميص، واللحم المشوي بأنواعه مع المحاشي وورق العنب، وفي المحافظات الشرقية والجنوبية كانت تسود وجبة المنسف المكونة من الرز مع اللحم والسمن العربي، والتي كانت تجمع أكثر من أسرة في المضافات العربية الواسعة، وترافقها السَّلَطَات والعصير والتمر والعجوة والحلويات الشعبية المتنوعة. وكان لدى الدمشقيين خاصة مَثَل شعبي شائع عن رمضان يقول: «العُشر الأول من رمضان للمرق» أي الاهتمام بإعداد وجبات الطعام الدسمة والمتنوعة، «والعشر الأوسط للخرق» أي التسوق وشراء ثياب العيد والاستعداد له، «والعشر الأخير لصر الورق» أي الاهتمام بإعداد حلوى العيد كالمعمول وغيره.

ورمضان اليوم

كان هذا هو رمضان قبل سنوات طويلة، لم يبق منه اليوم سوى أضغاث أحلام وذكريات بعيدة، فما هي حال رمضان بعد عشر سنوات من بداية القرن الحادي والعشرين؟! وما وجبة إفطار المواطن السوري؟! وما مكوناتها؟! للوقوف على خصوصيات الإفطار في رمضان جالت «قاسيون» على الكثير من الأسر التي اختلفت أنواع الأطعمة ومستوى الأغذية التي تتناولها على مائدة الإفطار، وكان لنا الكثير من اللقاءات الشاكية نعرض منها القليل:

ـ أبو فيصل قال لنا بكثير من الأسى: «ماذا نتناول على الإفطار؟ كان شهر رمضان اسمه شهر الخير والإحسان، واليوم للأسف اسمه شهر الاستغلال، فأصبح حلول هذا الشهر الكريم يفهمه التجار على هواهم، وبما يحقق مصالحهم ويرضي جشعهم على حساب نهب جيوبنا، فارتفعت أسعار المواد الاستهلاكية والتموينية بشكل جنوني، وحتى الخضار والحشائش، فقد أصبحت الجرزة بأكثر من 15 ل.س، ووصل الخيار إلى 40 ل.س، وكان أغلب إفطارنا على سلطة الخيار مع اللبن مع الرز، وكل الوجبات تخلو من اللحمة أو الفروج الذي وصلت أسعاره إلى مستويات مجحفة ولا نستطيع رصد أكثر من 200 ل.س لوجبة الإفطار، فماذا ستكفي الـ200 ل.س؟!!»

ـ أبو حسام المدني قال: «ما هي مائدة الإفطار عندنا؟! سؤال يجرح في صميم الخاطر، اقتنعنا على مضض أن المعدة ما حدا مفتشها، أحياناً تكون وجبة الإفطار هي مكونات الفطور العادي الذي نتناوله خارج أيام هذا الشهر، نفطر على خبزة ولبنة وشاي وصحن مكدوس، الكبب واللحمة والفروج ما عاد جبنا سيرتها، بعد أن اعتدنا في الأعوام السابقة أن نشتري معظم لوازم شهر رمضان بالجملة، ولكن غلاء الأسعار هذه السنة منعنا من ذلك، وصرنا نشتري حسب الضرورة، ولم نضع ميزانية خاصة لشهر رمضان لأنه ليس لدينا فضلة عن الحياة المعيشية الضرورية».

ـ محمد المصري قال: «والله مائدتنا نحاول تنويعها يوماً عن الآخر ولكن ضمن الإمكانيات المحدودة، ونحاول ألا تزيد تكاليف وجبة الإفطار عن 300 ل.س، وهي لا تشتري لنا أكثر من 200 غرام لحمة أو فروج صغير، مع كيلو فاصولياء وكيلو رز، طبعاً هذه الوجبة لأسرة مكونة من ستة أشخاص، ونحاول تغيير نوع الغذاء بين يوم وآخر ولكن ضمن هذه الحدود، وهناك الكثير من الأطعمة نحرم أنفسنا منها بسبب الأسعار التي ارتفعت لمعظم المنتجات الغذائية رغم كل الإعلانات والدعاية والقرارات التي تروجها الحكومة حول حرصها على حماية المستهلك، فالتجار يتحكمون بالأسعار والمواطن معاً، وحتى شوربة العدس التي يجب أن تتكرر يومياً مع كل صنف من الطعام فقد حُرِمنا منها بسبب ارتفاع سعر العدس وكل البقول بشكل غير معقول».

 

كثير من المواطنين لا يرصدون للإفطار

ـ أبو يحيى الرفاعي قال: «بدك تعرف الأسرة السورية شو بتفطر برمضان روح على المشافي وشوف حال العالم، روح واتفرج على الطابور الطويل للمواطنين الذين يدفعون فاتورة الكهرباء أو الهاتف بعد ما يقطعونهم، لأن كل مواطن يتمهل بالدفع حتى آخر رمق، وما معو يدفع إلا رغماً عنه بعدما يقطعوا الكهرباء أو الهاتف، وصدقني عدة ضربات على الراس تقتل فالفواتير ظلم وسرقة ونهب، والأسعار نار ومجنونة، ومصروف رمضان زائد عن باقي الأشهر، وهذا العام مثل العام الماضي الذي مازلنا نعاني من ديونه، رمضان والعيد مع افتتاح المدارس والمونة الشتوية والمازوت، وكل أمر من هذه الأمور يلزمه ميزانية وحده، فقط وحدها وجبة الإفطار لا نخصصها بميزانية، فكل الذي نوفره في رمضان ينفعنا فيما بعد».

ـ السيدة أم هشام قالت: «يا ابني خلّي الطابق مستور، وهالمعدة فعلاً ما حدا مفتشها، ولكن لي كلمة واحدة أقولها للتجار: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، فمِن ظلم التجار إلى المناخ الطارئ على العالم بحرارة لم نعهد لها مثيلاً، إلى سياسة التقنين التي تتبعها الحكومة كدليل عن عجزها على حل الأزمات، وجاء ارتفاع الأسعار قبيل رمضان ليكون الشعرة التي قصمت ظهر البعير. من وين ولا منين بدو المواطن يتلقاها؟! وبعد كل هل المشاكل بدو يفكر بنوعية الأكل والشرب على مائدة الإفطار؟! هذه الأمور صارت آخر اهتماماته».

ـ أبو سعيد الحمصاني قال: «أنا صاحب مطعم حمص وفلافل، وكل الإقبال الذي كان قبل رمضان على وقت الفطور أو الغداء تحول الآن إلى وقت الإفطار!! وصدقني هناك الكثير من الناس يفطرون على حمص وفلافل وشوية مخلل. وهناك حادثة أتمنى أن يعرف بها كل العالم، وخاصة أولئك المسؤولين عن معيشتنا وكرامتنا، فمن أول يوم في رمضان، وفي كل يوم هناك ولدان يأتيان قبل الإفطار بعشر دقائق، ويطلبان مني قليلاً من مرق الحمص في كيس من النايلون، وهو الماء الذي نسلق فيه الحمّص ثم نرميه عند فراغ القدر، وبعد أسبوع من بداية رمضان سألتهما ماذا تفعلان بهذا الماء يومياً؟! فقالا إن أمهما تقطع فيه الخبز مع قليل من الملح والكمون وتقول إن الإفطار على طبق الفتة كل يوم يدخلنا الجنة، هذه هي فتتهم، خبز مقطع على مرقة سلق الحمص!!».

 

إفطارات من نوع آخر

على الجانب الأخر من العالم المخملي مازال الأثرياء يتناولون وجبة الإفطار التي تحوي كل مكوناتها الأساسية، ولكنها لم تعد تمتلك تلك النكهة اللذيذة التي تنفرد بها الأطعمة المُحضَّرة في المنزل وبروح الألفة والتراحم، بل تنفرد بها المطاعم ذات الخمس نجوم التي تُكثِر من الإعلانات عن وجبات الإفطار والسحور، التي تشكل وجبات استثنائية يظهر فيها البذخ والدلال، والتي تتضمن قوائم من ألذ المأكولات الدمشقية، حيث أن مائدة الإفطار إلى جانب الطبق الرئيسي وهو غالباً  اللحم المشوي أو الفروج البروستد، تحوي شوربة العدس والكثير من أنواع الكبة النيئة والمقلية والحميص، والحمُّص والمتبَّل والبطاطا المقلية والسلطة والتبولة، وكل صحن من هذه الصحون لا تقل تسعيرته عن 150 ل.س، بحيث تصل فاتورة الإفطار لخمسة أشخاص ما بين 3000 إلى 5000 ل.س، أي بمعدل عشرة أضعاف إلى عشرين ضعفاً عن موائد السواد الأعظم من شعبنا ذوي الدخل المحدود الذين يفطرون على الفلافل أو فتة المكدوس، أو حتى الرز مع الفاصولياء!!

 

خيم رمضانية بدل موائد الرحمن

رخَّصت محافظة دمشق هذا العام للعديد من الجمعيات الخيرية حصرياً في رمضان، لتقديم /30/ ألف وجبة إفطار يومياً للفقراء والمساكين عبر خيام رمضانية موزعة على مناطق عديدة بدلاً من موائد الرحمن التي كانت تقدم إفطارات جماعية على مدار عدة سنوات مضت، بحيث كان يُفتَح صحن المسجد الأموي للصائمين وقت الإفطار وتُقدَّم لهم وجبات مجانية، وكان قد صدر عن وزارة الأوقاف قرارٌ مَنَعَ ما يُعرَف بموائد الرحمن، بحجة أن إقامة تلك الموائد داخل المساجد أمر «لم يُجِزْه الله تعالى، ولا حتى العقل، ولعدم تحويل المساجد إلى مطابخ» ولكننا نرى أن الحقيقة الكامنة وراء إلغاء هذه الموائد هي أنها كشفت عن الأعداد الكبيرة من مواطنينا الذين يعيشون على الحسنة، ويتدافعون للحصول عليها، ويُحدثون جَلَبة وضوضاء وفوضى، وكانت الشرطة تقوم بتفريقهم بالضرب واستعمال العنف.

 

أين دَور جمعية حماية المستهلك؟!

كنا قد تساءلنا كثيراً: أين دور جمعية حماية المستهلك؟! ولماذا لا تقوم بالمهمة المنوطة بها والتي أخذتها على عاتقها في الدفاع عن حقوق المستهلك وكرامته؟! ولكن تبين لنا أن كل ذلك مجرد حبر على الورق، ففي تصريح للزميلة «تشرين» أكد السيد عدنان دخاخني رئيس جمعية حماية المستهلك أن جزءاً كبيراً من أزمة ارتفاع الأسعار يتحمل مسؤوليتها المستهلكون أنفسهم، فلو التزموا لأيام قليلة بمقاطعة أية سلعة ترتفع أسعارها بشكل غير مبرر، لكانت الأسعار عادت إلى طبيعتها، ولعاد الباعة إلى طرحها بأسعار أقل عما كانت عليه قبل إثارة الأزمة، ورأى السيد دخاخني أن هذه المقاطعة هي الحل الأفضل والأمثل الذي يردع الجشعين وكل من يفكر بإيذاء المستهلك ويضعف قوته الشرائية. ومن المصدر نفسه وفي السياق نفسه أكد السيد عماد الأصيل مدير حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد أن المستهلك هو رب عمل لأنه يدفع المال، وفي هذه الحالة عليه أن يبحث عن السلعة التي تناسب دخله وبمواصفات جيدة ونظامية. هل هنا مكمن المشكلة؟! هل المواطن الذي يأكل هو سبب الأزمة؟! إذاً نقترح لو أن المواطن قد خصص أياماً كثيرة للصيام خارج شهر رمضان لما تجرأ التاجر على رفع الأسعار، فطعام المواطن اليومي هو سبب الأزمة، بينما التاجر الكبير الذي يضرب بكل القوانين عرض الحائط، ويجعل من نفسه مخلوقاً فوق كل القوانين ومحمياً منها وبعيداً عن الرقابة والمحاسبة، والذي يتحكم بالسوق جشعاً وطمعاً واحتكاراً، ليس هو سبب الأزمة، فهو فقط يتبع مصلحته، إذا رأى مواطناً جائعاً فعليه أن يطلب السعر المناسب لسد جوع ذلك المواطن، حقاً هو عصر التحولات الكبرى وينطبق عليه قول الشاعر: «يُبَرَّأ خنجر القاتل... وتُشنق جثة المقتول»

 

آخر تعديل على الإثنين, 25 تموز/يوليو 2016 13:02