علاقة قضية فلاحي أجور المثل بالقانون

في الوقت الذي لا يجوز لهم اتخاذ هذا الموقف، وبشكل مفاجئ، يتمترس بعض أصحاب القرار خلف القانون في محاولة لنزع يد فلاحي أجور المثل من الأرض، وبالأخص أولئك القابعين في المكاتب الوثيرة، والذين تشربوا بثقافة علاقات المجتمع الاستهلاكي، وتشكَّل وعيُهم السياسي في ظل سيادة المفاهيم الليبرالية، ولا يدركون، أو يتجاهلون قصداً، أبعاد الموضوع ودلالاته الخطيرة. وبغية وضع النقاط على الحروف نوضح التالي:

ـ أولا: لا يمكن التعاطي مع الموضوع من وجهة نظر القوانين المجردة، وتصوير الأمر وكأنه مجرد علاقة بين المالك والمستأجر، وبالتالي يخلصون إلى القول: «من حق المالك نزع يد المستأجر»... فاستثمار الفلاحين لهذه المساحات من الأرض لا يعود إلى شهر أو سنة، بل يمتد إلى ما يقارب نصف القرن، وفي بعض الحالات إلى أكثر من ذلك، عقود طويلة مجبولة بالتعب والعرق والدم، وقبل أن يتباكى البعض على أملاك الدولة، عليهم أن يسألوا أولاً: كيف آلت هذه الأرض إلى الدولة أصلا وأصبحت من أملاكها؟ إن أغلبية مساحة هذه الأراضي كانت بالأصل لكبار الملاكين، الذين استحوذوا عليها في فترات الاحتلال العثماني والفرنسي لبلادنا، أو «تسلبطوا» عليها بالقوة العشائرية، وبعد فرض قانون الإصلاح الزراعي في نهاية الخمسينيات والستينيات، برز دور الفلاحين ونضالهم كإحدى روافع تشكل جهاز الدولة السورية، وتمت مصادرة هذه الأراضي وضمها لأملاك الدولة، وبمعنى آخر فهذه الأراضي لم تصبح أملاك دولة إلا بنضال الفلاحين أنفسهم، وفي ظل ظروف تطابقت فيه توجهات الدولة وقراراتها مع مصالح الفلاحين، ومن هنا يمكننا القول إن كل إجراء يضر بمصلحة الفلاحين، كشريحة اجتماعية كان لها تاريخياً دورها النضالي، يلحق الضرر المباشر بالدولة أيضاً، إذا لم يكن هناك في داخل الدولة من يريد ذلك عن قصد!! وإذا كان أحد طرفي المعادلة (الدولة – الفلاح) مَدين للآخر، فإن الدولة في هذه الحالة هي المدينة للفلاحين، وكل نص قانوني لا يأخذ ذلك بعين الاعتبار، إنما هو قانون أصم وأعمى.

انطلاقا من كل ذلك، فإن الاتجاه القانوني الوحيد الذي يجب أن يُتَّبَع هو التحقيق في سبب عدم منح الفلاحين المستثمرين سندات تمليك حتى الآن، رغم مرور خمسة عقود على استثمارها، لاسيما وأن مقولات «الارض لمن يعمل بها» و «دولة العمال والفلاحين» أصبحت جزءاً من الوعي الاجتماعي منذ أوائل الستينيات، وقبل أن تصاب البلاد بحمى التحولات الليبرالية الجديدة. وإن تجاهل أو تناسي أوالتراجع عن هذه الشعارات نعتبرها جريمة بالمعنى السياسي، طالما أنها تعبر موضوعيا، بالحد الأدنى، عن مصالح أغلبية أبناء الشعب.

ـ ثانياً: إن العلاقة بين المواطن والدولة قائمة على ثنائية الحق والواجب، وليس علاقة مالك ومستأجر، فكما أن المواطن ملزم بالدفاع عن الدولة بالمعنى القانوني والسياسي والأخلاقي، فان الدولة مُلزَمة، كي تبرر وجودها، أن تلبي حاجات الشعب وتضمن أمنه الغذائي وصيانة كرامته، وأي خلل في هذه العلاقة يضر بالاثنين معاً، وانطلاقاً من ذلك نقول: لا يوجد ما يبرر للدولة أن تنتزع الأرض من آلاف المواطنين ومهما كانت الأسباب، حتى وإن كان البعض يحاول أن يوجد لها مسوغات «قانونية» مستحدثة، فإن مثل هذه القوانين المقلوبة على رأسها، والتي تضر بمصالح فئات جماهيرية واسعة، تتناقض مع مسوغات بناء الدولة واستقرارها، التي هي غاية وجود كل قانون، لاسيما وأن بلادنا تقع على تماس جغرافي مع عدو توسعي صهيوني استيطاني حاقد، وفي منطقة مضطربة بحكم المشاريع الاستعمارية المتلاحقة، ومن الممكن أن تستفيد القوى المعادية من أية ثغرة أو خطأ، فما بالك بهذه القرارات الارتجالية التي من الممكن أن تفسح المجال للقوى التي تستغل مثل هذه القرارات لبث النعرات والفتن، ومن المستغرب عدم أخذ ذلك بعين الاعتبار.

ـ ثالثاً: يجب التمييز بين نوعين من استثمار أملاك الدولة والاستفادة والإفادة منها أو استغلالها، فأملاك الدولة التي استولى عليها البعض بقوة النفوذ أو بدفع المعلوم بعد استشراء الفساد في الكثير من مفاصل جهاز الدولة، من حق الدولة، بل من واجبها نزعها منهم، أما استثمار الفلاحين للأرض بعد نضال وتضحيات، وكإحدى تجليات الإصلاح الزراعي الذي تحقق بفضل نضال القوى الوطنية، ولا يجوز الخلط بين هذه وتلك، كما يحاول البعض.

ولأن الشيء بالشيء يذكر، نسأل كل من يحرص على أملاك الدولة: كيف يجوز أن العشرات من المؤسسات والشركات التي كانت بمعنى ما من أملاك الدولة، أصبحت في حوزة المستثمرين تحت يافطات الاستثمار والتأجير، وغيرها من الستارات الخجولة لعملية الخصخصة؟! فلماذا تغيب النخوة ويغيب الحرص على أملاك الدولة هنا؟ وتحضر في حالة فلاحي أجور المثل؟!!

■ القامشلي – مكتب قاسيون