تزويج القاصرات بين القانون والعادات الاجتماعية
تعد مكافحة الظواهر التي تؤثر سلباً على استقرار المجتمع وتطوره، وعلى سيادة القانون واحترامه، من أبرز أهداف القانون. ورغم إدراك السلطة التشريعية في سورية لهذه المهمة الأساسية، الذي يمكن تلمسه من خلال العقوبات القاسية المفروضة على جرائم التهريب، والجرائم الاقتصادية على سبيل المثال، فإن الكثير من الظواهر الاجتماعية المتخلفة لا تزال خارج سلطة القانون. والسؤال هنا، لماذا يصرُّ القانون السوري على محاباة بعض الظواهر الاجتماعية، المستندة إلى الأعراف والعادات البالية؟
في هذا الإطار، يعد تزويج القاصرات من أبرز الظواهر الاجتماعية التي ينطبق عليها التوصيف السابق، وتنتشر هذه الظاهرة في مناطق واسعة من سورية، حيث يقوم الآباء بتزويج بناتهم القاصرات لرجال يكبرونهن أحياناً بعشرات السنوات، مقابل مهور غالية يأخذها ذوو الفتاة، مما يجعل هذه الأمر يرقى إلى مصاف تجارة الرقيق الأبيض المستترة بعقود زواج يحميها القانون.
لقد حددت المادة السادسة عشرة من قانون الأحوال الشخصية السوري، سن اكتمال أهلية الزواج للفتى بتمام الثامنة عشرة، وللفتاة بتمام السابعة عشرة من العمر، ونبدأ من هذا النص الذي يفتقر إلى أي مبرر منطقي فيما يخص سن الزواج للفتاة، فإذا كان سن الرشد في سورية ثمانية عشر عاماً فيما يتعلق بكل المعاملات المدنية والتجارية، فما هو مبرر إنقاص سن اكتمال أهلية الزواج للفتاة إلى سبعة عشر عاماً؟
على أن المشكلة الفعلية تظهر بوضوح في نص المادة الثامنة عشرة من القانون المذكور، التي تنص على أنه «إذا ادعى المراهق البلوغ بعد إكماله الخامسة عشرة أو المراهقة بعد إكمالها الثالثة عشرة وطلبا الزواج يأذن به القاضي إذا تبين له صدق دعواهما واحتمال جسميهما».. وهو نص ملتبس يترك الفتاة الصغيرة عرضة لضغط الأهل وإجبارها على الزواج، قبل أن تمتلك الأهلية الفعلية لفهم علاقة الزوجية ونتائجها، كما أنه لا يحدد المعايير التي يجب أن يعتمدها القضاء للتأكد من احتمال جسم الفتاة للزواج. والأهم أن هذا النص يتجاهل تعقيدات العلاقة الزوجية التي تزداد يوماً بعد يوم، والتي تتطلب استعداداً عقلياً ونفسياً لإنشاء أسرة وتحمل مسؤولية إنجاب أطفال قبل أن تتطلب استعداداً جسدياً. وفضلاً عن ذلك فإن موافقة مراهقة بهذا السن على عقد زواج، هي موافقة أهلها في الحقيقة، بل هي نتيجة ضغط الأهل في الأعم الغالب من الحالات، إذ لا تكون مراهقة في هذا العمر أهلاً للتعبير السليم عن إرادتها. وفضلاً عن ذلك فإن القانون الذي يعتبر فتاةً في الثالثة عشرة، أهلاً للتعبير عن إرادتها بالزواج، لا يمنحها حق فسخه قبل أن تتم الثامنة عشرة، وهذه ازدواجية وتناقض واضحان في فهم المشرع لأهلية التعبير عن الإرادة وما ينتج عنها.
يدافع الكثيرون عن هذا النص بحجة أن الشريعة الإسلامية لم تشترط اكتمال الأهلية للزواج، وإنما تطلبت الاستعداد الجسمي فقط. إلا أن هذا التفسير مشكوك في صحته، لأن الشريعة لم تحدد سناً للزواج، ولكنها لم تمنع تحديد سن له بنص صريح أيضاً. ومن ناحية أخرى فإن هذا التبرير لا يراعي التغير الهائل في متطلبات الحياة وطبيعة العلاقات الاجتماعية خلال أربعة عشر قرناً، والمعروف في الفقه أنه «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان».
إلا أن الواقع العملي يبدو أكثر مرارةً، لأن هناك من يزوج ابنته وهي دون السن القانونية، أي بعمر اثني عشر أو حتى أحد عشر عاماً، بعقد قران غير قانوني، وعندما تبلغ الفتاة الثالثة عشرة يتم تثبيت زواجها أمام المحكمة الشرعية، والمفجع في الأمر أن العقوبة تقتصر على دفع غرامة مالية بسبب إبرام زواج دون إتمام الإجراءات والمعاملات القانونية.
إذاً: يعود القانون السوري للاعتراف بزواج نشأ أصلاً قبل إتمام السن التي حددها القانون السوري نفسه كحد أدنى لإبرام زواج، دون أن يعتبر تزويج فتاة دون السن القانونية جريمة يعاقب عليها.
ليس التوصيف الصحيح لواقعة كهذه، أنها تزويج فتاة بعقدٍ غير صحيح، ولكن التوصيف الصحيح أن هناك من يسلم ابنته التي لم تبلغ سن الثالثة عشرة، لرجل كي يعاشرها معاشرة الأزواج. يسلمها دون أن يكون هناك من يقرر استعداد جسمها للزواج بالوصف القانوني، ودون أن تكتمل أهلية الزواج عندها بالوصف القانوني أيضاً. ولم يتحرك المشرع السوري لقمع هذه الظاهرة، بل إنه يترك الباب مفتوحاً لتحويل هذه العلاقة غير الشرعية التي ينطبق عليها وصف الاغتصاب، أكثر مما ينطبق عليها وصف الزواج، إلى زواج شرعي ملزم لا يحق للقاصر أن تعترض عليه أو تلغيه قبل أن تبلغ الثامنة عشر من العمر.
لتزويج القاصرات آثار سيئة على المجتمع وعملية التنمية، لأنه يؤدي إلى خروج القاصرات المتزوجات من العملية التعليمية، ويفتح الباب على مصراعيه لمعاملة الفتاة كسلعة، وتزويجها لمن يدفع أكثر، وهي في سن لا يسمح لها بالتعبير السليم عن إرادتها. وهنا يأتي دور القانون في مكافحة هذه الظاهرة من خلال فرض ضوابط أكثر صرامة على عملية تزويج القاصرات، ورفع الحد الأدنى لسن الزواج تدريجياً، بالتوازي مع عملية تنمية شاملة، وصولاً إلى استئصال هذه الظاهرة من حياة المجتمع السوري.