غذاء البسطاء يتعرض لكل أنواع الغش والاتجار بالمواد الفاسدة شروط السلامة الصحية العامة تُختَرَق علناً بسبب قصور الرقابة
خلافاً لما بدأ يطغى على صورة بلدنا في الآونة الأخيرة، فإن المؤشرات الصحية الجيدة والاهتمام بالوضع الصحي العام الذي تدأب على القيام به الحكومات، هو الدليل الأول على جديتها ومؤشر بيّن على اعتمادها تخطيطاً جيداً ومدروساً، وتبنيها سياسات جادة للاهتمام بمواطنيها وحفظ كرامتهم، لأن صحة المواطنين والحفاظ عليها يجب أن تكون من أولى أولويات أية حكومة. وهذا يدفعنا لأن نتساءل: لم وصلت الصحة في سورية على كل المستويات إلى هذا الدرك المتدني من الاهتمام والتخطيط والحماية؟! وأين الجدوى من قانون حماية المستهلك وسلامة الغذاء الذي هدفه الأول والأخير ضمان سلامة وصحة وجودة الأغذية المنتجة محلياً والمستوردة والمصدرة والمتداولة في سورية؟! كما نص على تنظيم الرقابة على المستوردات والصادرات والمنتجات المحلية الغذائية، بما يتوافق مع المواصفات الوطنية والمعايير الدولية المعتمدة من الجهات المختصة.
اهتم المشرِّع بوضع القوانين الخاصة مثل قانون سلامة الغذاء الذي يتخصص في طبيعة الغذاء وسلامته، وشروط دخول المواد الغذائية إلى سورية، وضوابط تصنيعها وطرق مراقبتها، حيث وحَّد الإجراءات القانونية التفصيلية الخاصة بسلامة وجودة المواد الغذائية، وحدد أهمية وجود جهة رقابية، وطبيعة عملها ومسؤولياتها في مراقبة المنتج الغذائي على اختلاف مراحله، للمساعدة على تحسين نوعيته وتأمينه بالطرق المثلى للمستهلك.
يتضمن قانون سلامة الغذاء عقوبات مشددة على المخالفات التي تمس أمن وسلامة الغذاء، وتتضمن سجن المخالف لمدة تتراوح بين ثلاثة أشهر وستة أشهر، إضافة إلى عقوبة إغلاق المنشأة التي تصنع المادة الغذائية المخالفة للشروط والمواصفات الصحية العامة، وغرامات مالية تصل إلى 150 ألف ليرة سورية، وأكثر من ذلك حيث يكون المجال مفتوحاً أمام القاضي لفرض عقوبات مالية أشد في بعض الحالات، بالاستناد إلى قوانين أخرى غير قانون سلامة الغذاء.
القانون بين التشريع والتنفيذ
يبدو أن قانون سلامة الغذاء لم يوضع لينفذ، بل كان ضمن سلة القوانين التي تظاهرت الحكومة من خلالها بالاهتمام بصحة المواطن وحمايته وحفظ كرامته، ولكنها بقيت حبراً على ورق، وإلا لما كنا وصلنا إلى هذه الحالة المتردية في الإطار الصحي العام، فقد كثرت في السنوات الأخيرة وانتشرت على نطاق واسع وخطير أمراض الدم والكبد والربو والقولون والسرطانات، وخاصة بين الأطفال وفي سنوات مبكرة من عمرهم، الأمر الذي يدعونا لدق ناقوس الخطر في وجه السلطات المعنية عساها تقوم بدورها الكامل في مهمتها الموكلة إليها، وتنفذها على الوجه الأمثل بتعزيز الإجراءات القانونية وتشديدها وتطبيقها ليس فقط على المستوردين أو المصنعين للمواد الغذائية الفاسدة، بل على كل من يسمح لهذه البضائع بالدخول إلى بلدنا الحبيب سورية، مهد الحضارات والكرامات، لنكتشف بعد ذلك أننا نأكل السموم المميتة والأغذية الفاسدة تحت غطاء الصلاحية والطعم اللذيذ، ولكن الأوان يكون قد فات وندفع ثمناً لهذا الكثير من صحتنا، وحياة مواطنينا التي باتت مهدَّدَة بالخطر الحقيقي الذي يسببه جشع الكثير من التجار وانعدام ضمائرهم، وتستُّر الكثير من الجهات الرقابية والتفتيشية عليهم والتغاضي عنهم، لقاء حفنة من المال الفاسد الذي ليس له نتيجة سوى تهديد حياة المواطن وأمن وكرامة الوطن.
الاتجار بالصحة والسلامة العامة
نتيجة السياسات الاقتصادية والاجتماعية القاصرة، بل والخاطئة في أغلب الأحيان، والتي أدت إلى إفقار الناس وجوعهم، وإحساسهم بعدم الاستقرار وانعدام الأمن والأمان المعيشي، سعى الكثير من ضعاف النفوس إلى إيجاد أساليب ملتوية للحصول على الربح الكبير والسريع، وكان الصيد الأثمن هو لقمة طعام المواطنين الذين يشعرون بدورهم بحاجتهم الماسَّة لتوفر مواد غذائية هامة وبسعر رخيص، وقد استغل ضعاف النفوس هؤلاء حاجة الناس هذه، وعملوا على توفير المواد الغذائية الرخيصة، ولك™نها غير صالحة للاستخدام البشري، وتوفرت في الأسواق أنواع كثيرة من الأسماك والفروج والأجبان والألبان وأغذية الأطفال والتمور والزيوت، وكان أهمها وأخطرها أكثرها احتياجاً للسلة الغذائية اليومية للمواطن، وهي اللحوم وخاصة الحمراء منها، المستوردة من لحم الجاموس الهندي أو البرازيلي وغيرها. ونظراً لكثرة الإصابات الصحية والأمراض التي سببتها هذه المواد الغذائية، تنبهت السلطات وبدأت باختبار الأغذية المعروضة في المطاعم والفنادق وعلى العربات ومحال القصابين، وكانت النتائج قريبةً من الفاجعة، ففي الأشهر القليلة الماضية رأينا أنه لا يكاد يمضي يوم إلا ونسمع فيه عن مصادرة أطنان من المواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك البشري. وتم ضبط كميات كبيرة وأنواع كثيرة من الأغذية تعرضت للغش ووصل الفساد فيها حداً ذا أبعاد خطيرة، كما تمت مصادرة كميات كبيرة من اللحوم والمواد الغذائية المستوردة الفاسدة وغير الصالحة للاستهلاك البشري، ولكن التساؤل الهام الذي يثير الكثير من الشكوك ويوجه أصابع الاتهام هو: كيف دخلت هذه المواد الفاسدة عبر الحدود؟! ومن نظم لها إجراءات الدخول ومنحها شهادات صحية نظامية؟! والآن وبعد مصادرة هذه المواد واللحوم وإتلافها، أليس من الواجب التحقيق في ملابسات دخولها ومحاسبة ومعاقبة المسؤولين عن السماح لها بالدخول إلى سورية؟! ومن المؤكد أن الذين سمحوا لهذه الأغذية الفاسدة بالدخول عبر الحدود يعرفون أنها بالتأكيد ستؤدي إلى إلحاق الضرر والأذى بصحة الآلاف من المواطنين، أو ليس ذلك بمثابة اعتداء مقصود وجريمة عن سبق الإصرار بحق أمن الوطن وصحة المواطنين الآمنين؟! أليست هذه جريمة تستحق أقسى أنواع العقوبات القانونية التي من شأنها ردع كل من تسول له نفسه العبث بأمن وسلامة الوطن والمواطنين؟!
أساليب استجرار المواد الفاسدة
يستغل بعض التجار والمستوردين وجود شحنات من الأغذية أو اللحوم التي تم رفضها في دول الجوار ويحصلون عليها بأرخص الأسعار، ويدخلونها عبر المنافذ الحدودية بطرقهم المعروفة أو عبر نقاط التهريب بالتعاون مع بعض الجهات ذات الصلة، ثم لا يلبثون أن يروجوها في الأسواق الداخلية بأسعار رخيصة تغري المستهلك المحروم بشرائها. وقد بدأت ظاهرة انتشار اللحوم المجمدة والمستوردة بالانتشار بشكل كبير في أسواقنا الداخلية في النصف الأول من العام الماضي 2009، ثم عادت وتناقصت في النصف الثاني بسبب تراجع أسعار اللحوم المحلية بنسب قليلة، نظراً للسياسات الخاطئة التي أدت إلى تخلي المربين عن أعداد كبيرة من قطعانهم، وذبحها وإنزالها إلى سوق اللحم من جهة، وبسبب الكساد وقلة الطلب الذي سبّبه ضعف القدرة الشرائية لدى المواطن السوري، وتراجع اهتمامه بالمواد الغذائية الغنية بالقيم الصحية، والتخلي عنها أحياناً وحذفها من سلته المعيشية اليومية.
ونحن أيضاً نشارك في غش أنفسنا
كذلك يستغل بعض المنتجين للمواد الغذائية، من الفاسدين وضعاف النفوس، اتفاقية التجارة العربية الحرة وموضوع شهادات المنشأ، ويقومون باستيراد مواد أولية ذات أصناف وأنواع متدنية الجودة ومحدودة مدة الصلاحية، حيث يصطادون هذه المواد بأرخص الأسعار ويضعونها في مستودعات وورشات متوزعة في مختلف المحافظات السورية، غالباً ما تكون بعيدة عن مركز العاصمة، ثم يطرحونها في الأسواق الشعبية الكبرى على أنها مستوردة، وإمعاناً في الغش والمخالفة يتم تعليبها وتغليفها على شكل عبوات شبيهة بعلب الأدوية كأغذية الأطفال مثلاً، رغم أن وزارة الاقتصاد والتجارة أصدرت تعميماً على الصناعيين والتجار بخصوص منع تعبئة المواد الغذائية المتعلقة بالأطفال بأشكال صيدلانية، ثم عادت ودعمت هذا التعميم بإصدار تعميم آخر يتضمن منع تعبئة وتغليف الشوكولا والسكاكر بأشكال صيدلانية لمنع الالتباس بينها.. لكن هذه العملية الخطرة ما تزال تتفاقم، وقد تحتاج لأكثر من التعاميم والعقوبات الخفيفة، فالخطر أكبر بكثير..
ولكي تكتمل دائرة الغش والاحتيال، تقوم مراكز توزيع الجملة للمواد الغذائية الخاصة بالأطفال، كالسكاكر والشوكولا والبسكويت والشيبس، للترويج عن تلك المواد باتباع أساليب التفافية، كالإغراء بهدية أو جائزة رمزية، أو كأن ترفق بكل علبة من هذه المواد ألبوم صور، أو مجموعة بطاقات مرقمة تحمل سلسلة من الصور، مكتوب عليها عبارات تجميعية، مثل: اجمع البطاقات والصور من رقم كذا إلى رقم كذا واربح هدية قيمة، كجهاز كمبيوتر أو لعبة، أو أي شيء يغري الشاري بمتابعة اللعبة حتى نهايتها، حتى إذا وصل أحدهم إلى النتيجة المطلوبة، واستكمل ما يلزم من البطاقات والصور استفاق من وهمه على الجواب الجارح والموارب، الذي يفيد أن الوقت المخصص لتوزيع الجوائز قد انتهى... وهذا ما شهده الكثير من المواطنين، الذين سقطوا في شرك الدعاية والإغراء.
بين الأسباب والعلاج
إن السياسات الاقتصادية المتبعة حالياً، والتي تمضي بالمواطن السوري بالتدرج السريع إلى الدرك الأسفل من حيث القدرة الشرائية، جعلته يبحث عن المواد الأرخص لمعيشته، دون الالتفات إلى جودتها وصلاحيتها، ولذلك كان الإقبال شديداً على شراء اللحم المستورد لرخص سعره، حيث تفاوتت أسعاره بين 150 ل.س لكيلوغرام هبرة الرقبة، و180 ل.س لكيلوغرام هبرة الفخذ، وكان الإقبال الأكبر على شراء هذه المواد من قبل ذوي الدخل المحدود، وكذلك لاقت هذه اللحوم رواجاً كبيراً في مطابخ المطاعم والفنادق حيث يتم خلطها مع اللحم البلدي، ويضيع شكلها وطعمها، بعد تزويدها بالبهارات والتوابل اللازمة، وتقدم على أنها لحم بلدي صاف.
إن جولة متفحصة على الأسواق الشعبية، ومعاينة ما يعرض في زواياها على أنه صالح للاستهلاك، سواء على العربات المتجولة، أو في البسطات السريعة في الظهور والاختباء، يبين أن نسبة كبيرة من المعروضات المعلبة وغير المعلبة، وبغض النظر عن جهة التصنيع، هي منتجات غير مطابقة أو مقاربة للحد الأدنى من الشروط والمواصفات الصحية، وبعضها فاسد وسام كلياً، وهذا لا يدفع ضريبته سوى الفقراء الذي أصبحوا يبحثون عن السلعة الأرخص ليسدوا بها جوعهم وجوع أولادهم..
لذلك فعلى الجهات الرقابية تشديد الإجراءات للقضاء على هذه الظاهرة، وكذلك يجب عدم التهرب من الواجب والمسؤولية التي تتقاذفها فيما بينها دوريات التموين والسياحة في مراقبة المطاعم، حيث يختص كل منها بتفتيش درجة معينة من المطاعم والفنادق، فتختص دوريات التموين بالتفتيش على مطاعم وفنادق الدرجة الثانية والثالثة، وتختص دوريات وزارة السياحة بمطاعم وفنادق الدرجة الأولى والممتازة، ويرمي كل منهما المسؤولية باتجاه الأخر، فتتميَّع الأمور وتتلاشى ملامح المسؤولية والواجب، بحيث يصبح من الممكن أن ينجو الكثيرون ممن يتاجرون بصحة المواطن وكرامة الوطن. وللقضاء على هذه الظاهرة المتفاقمة يجب على الجهات الرقابية والتفتيشية فتح الملفات لمحاسبة أصحاب الصفقات الفاسدة، ومعاقبة كل من ساهم بها وسهل لها الدخول عبر منافذنا الحدودية، ففي ذلك خطوة إيجابية على طريق حماية المواطنين والحفاظ على الوضع الصحي العام سليماً، وضمان أمن وكرامة الوطن.
■ عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.