يوم في حياة مواطن سوري.. الاستثناء الوحيد هو الثلج!

الساعة الثامنة صباحاً من يوم الأحد 12/12/2010.. استيقاظ نشيط لمواطن سوري برتبة طالب، يسكن في أطراف العاصمة. يزيل الغطاء السميك وينظر مباشرة إلى ما تعرضه النافذة.. أفقًُ مليءٌ بالغيم الداكن والمطر المتواصل الممزوج بالثلج.. مشهدٌ مفتقد منذ شهور.

الساعة التاسعة إلا ربع، يمشي المواطن مسرعاً باتجاه الشارع الرئيسي والثلج الذي يشتهيه ككل العباد المنكوبين بقحط المواسم السابقة يرسم بسمة متجمدة على وجهه رغماً عن أنفه المحمر أو المزرق.. التقى عن طريق مصادفة سعيدة بسرفيس قرر بعد التردد المخاطرة والنزول إلى الشام رغم الجو العاصف.. استرخى بدفء الشوفاج فاسترخت بسمته ليعود إلى وضعه الطبيعي.

بداية الكوميديا السوداء

الساعة التاسعة والنصف: «الله يبعث الخير.. خلي الناس تقول حاج.. أي من زمان.. هي شتوية» لا شك أن من قال ذلك مواطن لم يواجه أي عناء حتى الآن.. لأنه انتقل بالمصادفة نفسها، ولكن مباشرة من باب البيت إلى السرفيس.. «أي والله ... الله يبعت الخير». باقي الركاب يقرون بالإجماع..

الساعة العاشرة والثلث: شعور بالارتياح والدفء والثقة بالنفس، مبعثه بهو أحد المراكز الثقافية الأجنبية.. تعززه الصور والرسومات المعروضة على جدرانه بكامل ترميزاتها الموحية بالفوقية الغربية والهدوء والإبداع والترتيب والنظافة «مشهد من جانب واحد».

شخص مبتل من رأسه حتى أخمص قدميه فوضوي الشعر، اقتحم هدوء المكان لاهثاً ينفث بخاراً متصاعداً.. قدماه تتركان أثراً خلفه، ويوحي بكل مظاهر التخلف والبدائية (الشرقية أو العربية). فلا شيء إلا «الوحل» من أثره الحاراتي يؤكد لرواد المركز الدائمين حقيقة هؤلاء المتخلفين: يا له من «عربي مر من هناك»... «مشهد أكثر موضوعية».

الساعة الثانية عشر والنصف: يمشي في أزقة ساروجة محاولاً الوصول إلى شارع الثورة، يتبدى له وكأنه مشهد من لعبة الأتاري الطفولية «ماريو» في إحدى مراحلها الحاسمة.. موسيقى تصويرية توحي بالاستعداد لتجاوز العقبة الأولى، وهي طابوسة ماء قطرها متر واحد. عادية! قفز عنها وكأن شيئاُ لم يكن. طابوسة الماء رقم /2/ بعمق شبر ونصف وقطرها /2/ متر وبعدها رصيف مكسور.. ممكن أن الواحد يرجع إلى الخلف ويقفز... يزداد تركيزه على حافة الرصيف وعلى دائرة الماء معاً. يتمهل قليلاً، ويحبس أنفاسه، يغمض عينيه.. وهوب.. يقفز.. يفتح عينيه بقوة ليجد نفسه تجاوز البركة، ولكنه خسر لعبة تجاوز الأزقة دون الحد ألأدنى من البلل، فهو قفز من فوق البركة ليصل إلى تحت المزراب والذي لم ينتبه لوجوده على الرصيف ربما لقلة التركيز أو لعدم القدرة على تجاوز هذه العقبة بشكل مطلق، فالميزة الأساسية في أحياء الشام القديمة هي تعدد المزاريب اللامحدود والبرك المائية والحفر والريغارات المفتوحة والأرصفة المتكسرة.

في المعمعة

الساعة الثانية ظهراً: يحاول أن يبقى على الحياد بين جموع الناس المهرولين كل عشر دقائق تجاه سرفيس مشروع دمر، وسرفيس قدسيا جمعيات، ودون أن يحسم أمره رغم امتلائه بكل دوافع أولئك المهرولين، فالبرد قارس والمطر يتصاعد مع زخات الثلج والمزاريب المتسربة من سقف جسر الرئيس والوقت الذي يمضي ملقياً أمامه بخيارات ضئيلة، إما البقاء حيادياً أو الخضوع موضوعياً وليس طواعية للعبة أسرع واحد يلمح السرفيس ويتوقع مكان تنزيله للناس، والأخف وزناً، والأكثر طحشاً يحصل على مقعد سيؤمن له الحد الأدنى من الطمأنينة التي توحي بأنه قد يصل إلى بيته الحنون المليء بالدفء والطعام والأهل والأحبة ولو خلال ساعتين.

الساعة الثالثة إلا ربع: يشعر بالغبطة والسرور وقليل من التكبر لا لشيء يستحق، ولكن لأنه حصل على مقعد مريح في باص ضاحية قدسيا، الباص الصيني الحديث الذي يعج بأفراد كانوا في الماضي القريب من الشرائح الوسطى المنقرضة بسبب السياسات الليبرالية التي أحضرت الباص الصيني ورمت السرافيس ومن يتعيش عليها خارجاً إلى مزبلة التاريخ. الليبرالية التي استوردت كل السيارات الحديثة بثمن يناسب الشريحة الوسطى على حد تعبير أحد مسؤوليهم، طبعاً استهلكت هذه الشريحة مدخرات عمرها في الحلم الذي صار نقمة، فمتحذلقو الليبرالية صانعو الخطة الخمسية العاشرة والحادية عشرة نسوا أن يستوردوا شوارع عصرية تتناسب مع عدد السيارات المتزايد، كما نسوا أن يستوردوا أو يبدعوا حلاً لنظام الصرف ليستطيع تخزين المياه المتدفقة بغزارة وجعلها صالحة للشرب أو الري بأنظمة تنقية حديثة تجعلك لا تفكر مطلقاً بالندم والحسرة على كمية المياه المتدفقة خلال يومين لتستنقع في بحيرات تتبخر مع الشمس لاحقاً، فتتبخر معها كل أحلامنا بتنقية أصبحت اليوم من البديهيات تجعلنا لا نشحذ السماء في سنين القحط.

يالي من «عبيط» قال في نفسه. أفكر بالمستقبل؟ يبدو أن وهم الدفء تسرب أكثر من اللازم فعلى الرغم أنه لم يصل كل جسدي بفضل الكراسي البلاستيكية ولكنه أصاب دماغي فأعطاه فرصة للشطط والتعامي عن الواقع، والواقع أهم، ربما لذلك فقط قررت الحكومة تأخير دعم المازوت لجعل الشعب يفكر بواقعية أكثر، وعدم الشطط للمستقبل. الآن علينا فقط -نحن المدحوشين بالباص - أن نفسح المجال لأكبر عدد ممكن كي يندحش معنا، وهو حل جدي لمشكلتي الزحام والبرد معاً...

جسر دمر الشاهق المتعالي على من تحته يلوح في الأفق أمام المواطن، فجأة يقرر الباص أن ينحرف باتجاه مشروع دمر... هل الطريق مغلق إلى المنصورة؟!! سأل شخصاً بجانبه فأجاب: «الباص يصل الضاحية عن طريق مشروع دمر ولا يمر بطريق المنصورة»... فكرة بسيطة أيقظت المونولوج الداخلي من سباته، وأذابت جموده ليمتلئ بالسباب والشتائم على حماقته وتسرعه. كان عليه أن يتأكد قبل أن يجازف، كان عليه أن يختار وكانت الخيارات كثيرة... سُحق المونولوج الداخلي وصمت طويلاً بعد أن مشى تحت الثلج منبهراً بمنظر المياه المتدفقة كشلالات تل شهاب أيام زمان، والهاطلة من مزاريب جسر دمر إلى تحت الجسر لتنسل إلى الشوارع والبشر، وتصب بعفوية على آليات المحافظة المكنكنة تحت الجسر دون أن يتساءل أحد عن ضرر المياه الهاطلة بشدة على تلك الآليات والتي تتعطل كثيراً ونتساءل دائماً مما؟!! أكيد من كثرة النظافة.

الساعة الثالثة والنصف: يصل إلى الهدف المنشود «المنصورة» حاملاً حقيبة ظهرية نصف ممزقة، ولكنه لا يعاني من التثاقل فهو «وعين الله عليه» تخلص من أثقل ما يحمل /100 ل.س أعطاها لسائق التاكسي أجرة المشوار من جسر دمر إلى المنصورة أي حوالي /3كم/ فقط، لكنها بالمعنى الزمني استغرقت الوقت نفسه من دمشق إلى القنيطرة. كان عليه أن يتوقع المبرر المنطقي لكل هذا الزحام، فبعد ساعات فقط ستذاع نشرة الأخبار الجوية وتقول إن «طريق دمشق- قدسيا مغلق بسبب تراكم الثلوج». 

أيها الدفء..

الساعة الخامسة والنصف: قسط من الراحة والدفء والطعام يجعلونه أكثر عرضة للتفكير الرومانسي، يقف يتابع تساقط الثلج أمام نافذة غرفة صديقه الذي يقطن في منطقة مخالفات شوارعها أزقة مدرجة بالأسمنت والتراب ومليئة بالحفر والريغارات المغلقة، تعشش فيها الرطوبة وتعزف إيقاعاتها مزاريب تتخلل الرؤية حيثما اتجه النظر لتعبر بكل قهر البيوت عن صخب الناس وتحفر الزفت الهش، حفر تبتلع الماشي ولا تخشى من عواقب ذلك، فالبلدية تعطيها ضوءاً أخضر لابتلاع البشر أن أمكن، فمعدل التزايد السكاني لم يعد يحتمل، وعلى الحكومة التخلص منه بشتى الوسائل...

 الساعة السادسة: التراجيديا تعصف بأركان الغرفة الملعونة المظلمة نتيجة انقطاع الكهرباء بعد ماس كالصاعقة.. ثم تصرخ بعبارة: «خلص المازوت»، تهرب الرومانسية مسرعة وتترك المواطن وحده أمام خيار التجمد داخل الغرفة أو خارجها مع أولئك الذين حاولوا مثله الإسراع بحل بديهي وهو إحضار المازوت من الكازية بشكل سريع لإكمال (دق) الرومانسية مع الكستنا والنبيذ ونشرة الأخبار المعتادة بصورة الثلج على جبل قاسيون وأغنية فيروز «ثلج ثلج».. كل هذه المغريات تجعله يحث خطاه مسرعاً من الغرفة إلى الشارع بكامل الحيوية والاستعجال فلا مشكلة أن الثلج يهطل بغزار ودرجة الحرارة ما دون الصفر والحفر والمزاريب والسير المقطوع وعدم وجود سيارة توصله إلى كازية دمر.. كل هذه الأمور يقاومها جسده المفعم بروح الحماس والممتلئ بروح المغامرة وحب التسكع في الليل والتمشي تحت الثلج...

الطابور يطول في كازية دمر ليشعل ذكريات الزمن الماضي، زمن الثمانينات، أيام الحصار التي لا يزال أهله (يهتّونه) بها حتى اليوم، أيام كانت علبة محارم أو كيلو سمنة يستحقان الانتظار ثلاث ساعات.. وأخيراً «شاف بعينه ما حدا قله».. بقي منتظراً، وكان الجواب شديد الخيبة من صاحب الكازية: «الصهريج قد لايصل..».

«كازية الهامة تعتبر خزان الرئيسي للمازوت وهي لا تنقطع من المازوت».. أحدهم ذكر هذه المعلومة سابقاً.. شعر لمدة عشر دقائق أنه أكثر الناس ذكاء وسرعة على اتخاذ القرار، خاصة في الأوقات الصعبة.. وهوب وخلال عشر دقائق وصل إلى كازية الهامة ليكون الجواب: «الصهريج معطل على الطريق وبيجوز ما يجي اليوم».. أغلق صاحب الكازية باب غرفته الدافئة، وتركه وحده أمام الخيار الأخير، والذي واجهه مثل آلاف السوريين، ألا وهو «شحادة المازوت» أو التعفف حتى الموت. 

يوم ليس استثنائياً 

هذا يوم كان بكامل اعتياده.. فالاستثناء الوحيد هو الثلج.. أما الحفر والمستنقعات والمزاريب وسوء النقل والزحام والتهميش الحكومي ورفع الدعم عن المازوت، وصولاً إلى قطعه في اللحظات الطارئة.. كل ذلك واقع دائماً. الفقراء والراكضون وراء الحافلات والمنتظرون الغيث من المساء.. كلهم كانوا كما عهدهم، يصرخون دائماً بدواخلهم، يقمعون كل أحاسيسهم وحتى لا وعيهم ومونولوجهم الداخلي إن أمكن... يصرخون في دواخلهم حتى تقرحت معداتهم واحترقت أكبادهم وتفتت عظامهم. أولئك الذين قال عنهم الماغوط «وحدهم الفقراء يستيقظون باكراً حتى لا يسبقهم إلى الشقاء أحد».

الساعة الثامنة والنصف: تعود الكهرباء مؤقتاً.. ثم، إطلالة متوازنة على التلفزيون الرسمي لصوت واثق متصاعد يمزج بين الغلظة والرقة، يصدح على مسمع ومرأئ كل أولئك الذين كانوا مع المواطن السوري في رحلته اليومية، ليخبرهم الخبر الأول:

«دمشق تلبس ثوبها الأبيض في عرسها الشتوي»..