مناخات متباينة حول مرسوم منع الضرب في المدارس
جاء مرسوم منع الضرب والعنف بشكليه (اللفظي والجسدي) في المدارس، كبشرى سارة تحمل في طياتها أملاً، بأن هناك من أصبح يرى ضرورة في العمل على خلق جيل صحيح نفسياً وجسدياً وتعليمياً.
المسؤولون الكبار في وزارة التربية تعاملوا مع المسألة بحياد من ليس له علاقة كبرى بالمسألة، فظلوا جالسين على كراسيهم مسترخين، واكتفوا بتعميم المرسوم على جميع المدارس، فلا أحد في النهاية قد يشكك بنيتهم الصادقة في تمني وجود نشء قويم تربى وتعلم دون عنف.
إلا أن الرياح لم تجر كما تشتهي السفن، إذ سرعان ما ظهر تفاوت يصل حد التناقض بين كل المعنيين المباشرين بالقضية، وهكذا حدث هرج ومرج في صفوف المدرسين والموجهين التربويين والطلبة ومن ورائهم أولياء أمورهم، وانقسم الجميع بين مؤيدين ومعارضين، وبينهما محتارون لم ينضج موقفهم، هل يؤيدون، أم يعارضون؟.
والسؤال هو: لمَ ظهر كل هذا التناقض؟ تحتاج الإجابة على هذا السؤال إلى إيجاد إجابات عن عدد من التساؤلات منها: هل يتفق إلغاء العنف المدرسي مع بنية المجتمع السوري الاجتماعية والطبقية، ولاسيما أن موروثه التاريخي تكتنفه جملة من المفاهيم والطرق التربوية المتباينة، وإن يغلب عليه تقدير أهمية استخدام العصا في إصلاح الطفل واليافع؟
ثم ما هو مدى قناعة كل من المعلم والطالب بأن منع الضرب والشتم واحد من حقوق الطالب الملحة؟
وعلى فرض أن المعلم وتلميذه مقتنعان بأهمية منع الضرب رغم أن الحقيقة غير ذلك، ما عدد أولياء الأمور المقتنعين بضرورة إيقاف الضرب؟
ثم، ومن الناحية التربوية، ما هي البدائل العقابية التي يمكن اعتمادها في المدارس إذا ما التزم الجميع بمنع العنف المدرسي؟
إن ما يجري على أرض الواقع هو التالي:
وصلت التعميمات عن وزارة التربية (عن طريق الفاكسات والبريد) إلى المدارس، وخصوصاً الرسمية (الحكومية)، وتليت مضامينها التي تنص على إلغاء العنف، ومعاقبة المخالفين من مدرسين وتربويين.. بعدها دخل كل معلم إلى صفه خلف طلابه الذين يصل تعدادهم فيه إلى أكثر من /40/ طالباً، كل واحد منهم قادم من خلفية ثقافية وتربوية مختلفة، ليجد العديد من الطلاب لم يحفظوا دروسهم، ولم يكتبوا الوظيفة المقررة عليهم، ولم يكفّوا عن الشغب، والضجيج، والتشاتم، ومشاكسة المعلم.. ماذا عسى المعلم أن يفعل؟ لا شك أنه، وعلى أساس إعداده وتحضيره وثقافته وخبراته، وجلّها بكل أسف، محدودة، سيدخل في صراع نفسي حاد: «الضرب ممنوع، والشتم ممنوع»، وفوق هذا وذاك فإن التعميمات الوزارية لم تسعفه حين لم تحدد بديلاً عقابياً.. هنا يلجأ الجميع للاجتهاد.. كل منهم يصنع بديله العقابي، إما بإنقاص علامات الطالب، أو بطرده خارج الصف مع استدعاء ولي أمره، أو برفع طلب بفصله... وهكذا..
في جميع الأحوال فإن الطالب المعاقب لن يتقوم بكل هذه الأساليب، فإنقاص العلامات لا يشجعه على الدارسة، وطرده الطويل أو القصير سيسمح له بأن يدخن سيجارة أو يشارك زملاءه المطرودين الآخرين في نشاطات غير مدرسية مختلفة، بعضها قد يكون مؤذياً بشدة للطالب وللمجتمع... فمن المسؤول عن ضياع هذا الطالب وتشتته ووقوفه على حافة حادة تفصله عن الانحراف؟..
ولن تتوقف الأمور عند هذا الحد فقط، إذ أن عقوبة الضرب ستطبق عليه وشيكاً، ولكن هذه المرة من جانب أبيه أو ولي أمره، فالتعميمات لم تشمل أولياء الأمور، وليس هناك عقوبة للوالدين المؤيدين للعنف وممارسيه متى يشاؤون!...
في أحد الصفوف أحدث أحد التلاميذ شغباً.. ثار غضب المعلم، فأربعون طالباً قادرون على إحداث ريح قوية إذا ما تنفسوا في لحظة واحدة، فكيف إذا تلا ذلك شغب مفاجئ؟ لاشك أنها ستكون القشة التي ستقصم ظهر البعير! استل المعلم عصاه متناسياً عقوبات منع الضرب، مستعيداً ما تربى عليه هو وإخوته وأقرانه وأجداده من قبله، وضرب المشاغب سيئ الحظ.. فكانت النتيجة أن ولي أمر الطالب وهو بالمصادفة ذو علاقة وطيدة مع عضو نافذ في السلك التربوي، ومقتنع بأهمية إيقاف العنف المدرسي، استطاع أن يحيل قضية الطالب المضروب إلى وزارة التربية التي لم تتوان عن إقالة المعلم من عمله، وهو الذي لا يملك واسطة تدعمه سوى «الله».
في بلدنا، لم يعد المعلم على الغالب، قادراً على تأدية رسالته الإنسانية بالصورة المطلوبة، فلا ظروفه، ولا أجره، ولا حالته النفسية، ولا إعداده وتأهيله، ولا تقدير مستوى تقدير المجتمع له يتيح له ذلك، ومعظم المعلمين لم يعد لديهم هاجس وأمل وعزاء سوى أنهم حين يصلون سن التقاعد سيجدون راتباً مقتضباً يعيلهم.
والطالب في بلدنا تائه بين قوانين مدرسته وقوانين بيته وقوانين مجتمعه.. حيث لا صلة مجدية تذكر بين كل هذه الأطراف..
وأولياء الأمور أتعبهم الجري وراء لقمة العيش، فكيف سيجرون وراء وسائل تربوية «حضارية» تتناسب مع التغيرات المتلاحقة التي تطرق سطح المجتمع السوري كل يوم، ولا تعرف أعماقه؟
ووزارة التربية، ما زالت تستغرب كل الاستغراب، من أن قانوناً «حضارياً» كقانون منع الضرب يحدث كل هذه الفوضى واللغط، رغم أنه قانون عصري طبقته الدول المتقدمة منذ عشرات السنين!!.
الكلمة التي سنهمسها في أذن الراغبين حقاً في إيجاد طلاب وطالبات ينهضون بهذا المجتمع هي أننا مع منع العنف قلباً وقالباً، ولكن ليعم ذلك كل المجتمع وفعالياته المختلفة، فالقوانين المستوردة، قوانين تناسبت مع مجتمعات لها ظروفها الاقتصادية والاجتماعية التي أطلقتها.. ولا يمكن بحال تطبيقها في بلادنا دون دعامات حقيقية..
سنكون من الصابرين، فلا تتم الأمور إلا بالصبر والمتابعة، ولكن المطلوب هو خطة شاملة للإصلاح اقتصادية- اجتماعية وتشريعية وتعليمية وإعلامية وقضائية.... لنبدأ الإصلاح من هنا، ثم من البنية التحتية، فالفوقية، ثم من الأهل والمعلمين بأفكارهم ومعتقداتهم الموروثة..
دائماً هناك أمل لكن علينا أن نبدأ..