أيها الماء

ليس فساد الملح وحده ما يخيف، وهنا على هذه الأرض الطيبة التي كبرت فيها عقولنا وأجسادنا ثمة فساد من نوع آخر، أو على الأدق فساد مادة تشكل ثلاثة أرباعنا، واستمرار فسادها سيصنع بوابة جديدة لموتنا، موتنا القادم من أفواهنا.

صنعنا بإهمالنا وقسوتنا بوابات موت اعتدناها، لم يعد مفاجئاً الموت بجلطة دماغية، أو سكتة قلبية، ولا الموت مما نستنشق عبر رحلتنا في الشوارع، المتنزهات، فالهواء المسموم يسد علينا التنفس، ولا الموت مما نأكل من أرضنا الملوثة بما صنعناه بأيدينا، أيدينا الملوثة بالقسوة، والجشع، نسقي ما نأكل مما نطرح بحجة الشح، وعدم رضا الله، فالماء الأسود يغطي وجه الأرض الخضراء في الغوطة، وبساتين كفرسوسة، وصولاً إلى نهايات بردى في بحيرة العتيبة التي لم يصلها الماء منذ أكثر من عقد.

رمينا على وجه الأرض كل سمومنا، دفعنا المال المبهر إلى صناعة مستقبل مسموم لذريتنا المتهالكة من قلة النقاء، وضعف العود، تكاثرت فضلات الدبّاغات، ومعامل الرخام في طريق النهر حتى صارت هي النهر، وتآكلت البساتين، ولم يعد الطريق المسقوف بالشجر سوى شارع إسفلتي ينفث الحر، والخريف الذي كان يفرش جوانب الطريق بالورق الأصفر صار يفرشها بالغبار، تغيرت ملامح الطرقات والأماكن، عشر سنوات مرت قاحلة، عشر سنوات أخيرة صنعت بقوة إهمالنا، وبعض الشح وجهاً جديداً لمشاويرنا، لفصولنا التي ضاعت، فلا الشتاء شتاء، والصيف الصحراوي مستقر لنا.

الماء الذي كان غناءنا وبردنا، وعين الفيجة التي كانت أغنية في كل الشام، وكانت مقصداً للعرب الهاربين من القحط والشمس، إلى نسمة في وادي بردى، الفيجة وبقين تنحسران إلى حدود الغياب، والسواقي والأنهار القروية والينابيع صارت قصصاً نرويها، هنا كان ينفجر نبع ماء، هنا كان النهر لا يكف عن السير في الصيف والشتاء، هنا غسلنا لسنوات تعب أقدامنا وروحنا، هنا على ضفاف بردى قرب سينما دمشق رمت حبيبتي رسائلها، وفي الطريق إليها سرت مع بردى وتحت ظل الشجر الذي يصنع سوقاً مسقوفاً من الحب، هنا كل مشاوير أبناء دمشق، هنا صنعوا (التبولة، الفتوش)، ورائحة اللحم المشوي تجعل من يوم الجمعة كرنفالاً، ورائحة البطيخ توحي بصيف بارد لروح ملتهبة...الآن بعد سنوات قسوتنا...أقسم أننا هنا أضعنا طقوسنا في حلقة المال والفساد.

الماء فسد الآن، ويذكر موقع الكتروني سوري أن خزانات المياه التي تروي قرى كثيرة في اللاذقية تعج بالأفاعي والضفادع، وأن حجم الطمي تجاوز المتر فيها، أين من يأخذون الرواتب والحوافز، والساهرون على مائنا المسفوح، ويتفوهون بعبارات العمل، والفعل، والشبكات الجديدة، وإيصال الماء إلى البيوت، وفي نهاية الشهر يكتبون الفواتير ثمناً للماء الملوث، الماء القاتل؟

في ريف دمشق جددت الشبكات، القساطل القديمة التي نخرها الزمن والماء عاجزة عن الحياة، حفرت كل شوارع الريف، وقدم اليابانيون القروض والمنح، واشتغل الآلاف من العمال، واستفاد المتعهدون من المال المعد لأفواهنا، وتحمل الناس الشوارع الترابية، غبار الصيف، أمراض الصدر، كرمى لماء غير ملوث، لماء جديد.

ماذا كانت النتيجة؟ لم تصل المياه إلى أماكن كان من المقرر أن تشرب، انحبس المطر، خابت الفكرة، لكن ما بأيدينا هو أن بعض هذه الشبكات نفذت كصفقات، أسرع زمن، أبخس بضاعة، أكثر ما يمكن من الربح، وعلى الأرض مياه تختلط بالصرف الصحي، أوبئة، جوائح، وفي أحسن الأحوال تنفجر الشبكات الجديدة هنا وهناك.

ما نحتاجه في النهاية ليس ماء نظيفاً فقط، ماء ليس بفاسد، نحتاج إلى حساب كل يد تفكر بمالنا العام، هوائنا العام، ترابنا العام، كل ما نحن شركاء فيه، ليس من حق أحد أن يعتدي بجشعه على ما نملكه مجتمعين، لأن الندم الذي سيأتي بعد حين لن يجيب على سؤالنا الخائب: ما الذي فعله البعض منا بك أيها الماء؟.