من الذاكرة: ذاب الثلج... وبان المرج

كنت خلال زياراتي شبه الدورية الأسبوعية تقريباً، للشيوعي المزمن الرفيق الأديب عبد المعين الملوحي، أجلس معه في غرفة مكتبه ومكتبته في آن واحد، بمنزله قرب وزارة الصحة بدمشق، لأسرد على مسمعيه خلاصة وافية عن عمل وأخبار الرفاق وأحوال المدينة والبلاد، وأستمع إليه ــ وهو كعادته دائماً ــ يبوح بما لديه من أفكار وشؤون ببساطة آسرة وشفافية قل نظيرها، ويمكنني القول بكل الصدق والدقة: إنه مسكون بحب الإنسان والإنسانية، ومعبأ بالكره والعداء المشروع للاستعمار والقهر والاستغلال وبخاصة نقمته الشديدة على الاستبداد والمستبدين الطغاة الجاثمين على صدور شعوبهم.

في إحدى تلك الزيارات أخبرني أنه ينوي تأليف كتاب يشرح فيه الدوافع والأسباب التي جذبته لاعتناق الشيوعية، فأصبح شيوعياً مزمناً، وهو من مواليد حمص عام 1917 عام ثورة اكتوبر المجيدة. وبعد صدور الكتاب تحت عنوان «كيف أصبحت شيوعياً؟» شعرت بحافز قوي يدفعني إلى مواصلة ما ذهب إليه، وذلك بلقاءات مع عدد كبير من الرفاق من مختلف «الفصائل» ومن التاركين للتنظيم، ونشر تلك اللقاءات على صفحات قاسيون لتكون أمام الجميع، وخصوصاً الرفاق الشباب، ليستلهموا من تجارب رفاقهم القدامي ما يفيد نضالهم ويعزز عملهم الصادق المخلص لخير الشعب والوطن والحقيقة التي يجب أن تقال: إنني توقفت ملياً عند معنى «أصبحت شيوعياً» وساءلت نفسي: هل الانضمام إلى صفوف الحزب يجعل المنضم شيوعياً؟!

أم أن الشيوعية تعني الممارسة والفعل واقعاً وسلوكاً ونضالاً وعطاء وتضحية ونكراناً للذات؟! ولتشفع لي صراحتي لأن المعول أولاً وأخيراً هو على صدق الانتماء المتجسد بالقول والعمل معاً. ولعل البعض يتساءل: إلى ماذا ترمي؟ وأقول: إن لقب الشيوعي يليق فقط بالشيوعي الحقيقي. وبسبر الواقع تطالعنا شواهد عديدة يعرفها الكثير منا عمن «طفشوا» من الشيوعية وتنكروا لها وعادوها، وهؤلاء لم يكونوا في يوم من الأيام شيوعيين، بل بالتنظيم كراكب قطار يريد الوصول إلى «محطته» الخاصة، هذه الشواهد ملأت برامج المحطات الفضائية، لتصفع عيون المشاهدين بدعاة انبطحوا في أحضان «ديمقراطية» الرأسمالية المتوحشة، وجهروا بتحالفهم مع الظلاميين من عفن قرون التخلف والأحقاد، هؤلاء الذين لعقوا الأسطوانات التي عزفوها سابقاً، بل بلعوها، والذين «يبتدعون» أسطوانات جديدة تنعت الثابتين على المبدأ بالخشب والخشبية وسأضيء في حديثي اليوم على نماذج من الثابتين عل المبدأ حتى يومهم الأخير، الذين أثبتوا أنهم أحياء، ولغتهم هي الحية النابضة بالأمل الثوري بانتصار نضال الكادحين الساعين إلى بناء عالم أفضل وأجمل، وفي مقدمة هؤلاء النماذج شهداء حزبنا في المعارك الوطنية والطبقية وتحت التعذيب.. من الرفيق الضابط الطيب شربك إلى العامل حسين عاقو إلى الرفيق الضابط ممدوح قره جولي إلى القائد فرج الله الحلو إلى المعلم سعيد الدروبي إلى بقية كوكبة الرفاق الخالدين.

ولتسمحوا لي قراءنا الأعزاء أن أتحدث عن واحد ممن أبدعوا اللغة الحية النابضة بأسمى ما في الوجود من حب للإنسان ورجاء حار مدعم بالعمل والفعل لوطن حر وشعب سعيد، إنه الرفيق الشاعر وصفي القرنفلي 1911 ــ 1972 صاحب السجل الحافل بالنضال والعمل المخلص في سبيل العمال والفلاحين، والذي أتحفنا بالعديد العديد من القصائد الثورية ومنها رائعته في عيد العمال عام 1954 التي ألقاها بحضوره ونيابة عنه لمرضه الرفيق الشاعر محمد الحريري بصوته الجهوري الهادر في سينما الرشيد الصيفي «اللونابارك» التي أقيم مكانها المركز الثقافي السوفيتي بين ساحة يوسف العظمة وساحة السبع بحرات...

ومنها هذه الأبيات المشحونة بالحياة والإبداع العذب الآسر:

سبح الصبح باسمنا إذ رآنا

وانتشى الدرب يوم همت خطانا

صفق الجدول الصديق يحيينا

ونادى فأيقظ الأقحوانا

وهفا برعم يساءل من يا

أم؟ قالت أظنهم نيسانا

كل تاريخنا انتفاضة أحرار

وشعر يستصغر العبدانا

قل لمن يزعمون عالمهم حراً

أحر يستعبد الإنسانا؟

كم خدعتم بالعالم «الحر» شعباً

والتهمتم على اسمه الأوطانا

قد عجنا دولاركم وخبرناه

فكان التزوير والبهتانا

إن هذا الدولار لو يقرأ

التاريخ تاريخنا إذن لاتقانا

عرب نحن والعروبة

إنسان شريف يستنكر العدوانا

كلما هم فاتح أو غزانا

ضاع في السفح واستطالت ذرانا