السويداء.... موت سريع بالرصاص... وآخر بطيء في الطوابير
طوابير السيارات تغلق الطرقات المؤدّية إلى كازيّات «سرايا» و« الشهباء» للحصول على مادة البنزين، واحتفاءً بالمازوت في كازية « بلان » نجم عنه إحراق للدواليب وإطلاق شعارات نارية، أصابت حياء القائمين على توزيع هذه المادّة، أُسعف بعضهم إثر نوبة ذهول وكآبة تطايرت شظاياها إلى قناة فضائية، فهللت وأذاعت على وقع طبول الحرب نبأَ التحاق الشعب الفقير في السويداء بركب الثورة، «ثورةِ أغنياء الفنادق في الخارج».
الفرن الآلي فاجأ الجميع ودخل المنافسة، وتباهى بالدور البشري الممتد عشرات الأمتار، معانقاً المؤسسة الاجتماعية العسكرية في نهاية الطريق. ربطتان من الخبز فقط تكفي عائلة لمدة يوم واحد، وتضمن التواجد الكثيف في اليوم التالي، للتعرف على أصدقاء الفقر والبؤس الجدد، وصورٌ تذكارية للفائزين بالخبز هنا وهناك.
وذات ليلة احتُفل على مسرح كازية اتحاد الفلاحين عشاق المازوت، الذي طال انتظاره في ليل الفقراء البارد. وخلال الحفل تمّ توزيع جوائز الترضية في يانصيب المازوت المحدودة الكمية، حيث بلغت قيمة الجائزة أربعين لتر مازوت لكل فائز، وطبعاً على دفتر العائلة، الذي سيدخل حكماً التاريخَ من أوسع أبوابه، لكثرة استعماله في شراء حاجاتنا اليومية، في الحارات والأزقة، عند عشرات الآلاف من المهجَّرين عنوةً من دمشقَ وريفها، والقاطنين في شقق مؤجَّرة بأسعارٍ خيالية، كونَهم سوَّاحَ الأزمة في السويداء – باريس الثانية، في ظلّ المخصصات ذاتها من الطحين والمحروقات التي لا تسدّ الرمق لدى أهالي السويداء، فضلاً عن المهجَّرين دون إحصاءات رسمية عن أعدادهم الحقيقية. وإن حالفك الحظّ والتقيت بأحد المسؤولين في المحافظة، لسانُ حاله أنّ الأزمة هي السبب وجشع المواطنين وقلّة المناعة الوطنية لديهم، ويتنصّل كالشعرة من العجين بحنكة فاخرة.
ومئات الشهداء ضجّت بهم مكبّرات الصوت. فكلّ يوم شهيد، وبعض رصاصات، وحفنة رزّ، حتى بتنا نكرهُ جميع المكبرات والأبواق الإعلامية المروّجة لحرب التحرير وحرب التطهير وحرب الطوابير. والخاسر الأكبر الشعب السوري الفقير، من جرّاء كوارث وعواصف الغبن والعنف المضادّ، ومعلّقات للشعر تتغزّل وتنوح على سكّر التموين تناجي دياره الغالية، ومؤسسات التجزئة التي تضامنت موادها الاستهلاكية مع السكّر ورحلت، تاركةً للريح مكانها ذبابَ قناصة دم تسدّ دروب النجاة والإمدادات الغذائية في وجه محافظةٍ كاملة.
وتكتمل اللعبة باستهداف المدنيين في حافلات النقل على طريق المطار. قناصة دم ومدفعية وراجمات صواريخ هناك تختصر مسافة وطن، وقناصة لقمة الخبز هنا وجهان لفساد واحد، ومجرّد تقسيم العمل والأدوار. فأسباب وجوده تعددت والموت واحد، موت سريع كالرصاص، وآخر بطيء كالطوابير، وهنا تتجلّى ديمقراطية الموت والجوع للفقراء...
من الموت الواضح والمقنّع ننهض من جراحنا ودمائنا، من فقرنا وضعفنا. ننهض من انسحابنا التكتيكي أمام قوى الفساد والتطرّف، الناطقة زوراً باسمنا، والمتسلّقة على ظهورنا المحدودبة من الكدح والمثقلة بهموم الوطن، لنعلن سقوط كلّ الأقنعة والوهم.
نحن الشعب السوري الفقير المقتول والضحية نريد حقّ تقريرالمصير على أرضنا.. لأنّ للفقر طوابير وثورة قادمة.