يوسف البني يوسف البني

أحد مسببات الاحتقان الشعبي الذي تجلى بالاحتجاجات والمظاهرات مصادرة الدراجات النارية حرم البعض وسيلة تنقُّلهم والبعض الآخر باب رزقهم!

يعرف المواطنون على اختلاف مستوى تعليمهم وثقافتهم أن الكثير من  القرارات والإجراءات والقوانين ، تأتي خدمةً لمتنفذ أو لمسؤول كبير أو لوسيط أو تاجر له تشابكاته مع فاسدي جهاز الدولة الكبار، وذلك لتنفيذ مآرب شخصية يجني من ورائها المتشاركون الفاسدون الأرباح الفاحشة الظالمة غير المشروعة ، حتى لو أدى ذلك إلى الإضرار بمصالح الكثير من المواطنين ، وحتى لو أدت تلك القرارات إلى اتساع الشرخ بين المواطنين والنظام السياسي، وأثارت حنق المواطنين على من يحكم باسمهم ، وخسَّرت الدولة مبالغ طائلة كان من الممكن أن تدعم الخزينة العامة.. ولعل ما جرى في قضية الدراجات النارية يأتي في هذا السياق..

فبعد حصول أحد المتنفذين المقربين من دوائر القرار على رخصة استيراد دراجات كهربائية، فرضت السلطات السورية رسوم تسجيل تتراوح بين أربعة آلاف وسبعة آلاف ليرة سورية على الدرجات النارية، مؤكدة أن من لا يدفع رسوم التسجيل تصادَر دراجته وترسل إلى معمل الصهر في حماة. وعند تنفيذ القرار لم يراعَ كون الدراجة مهربة أو نظامية، كما جرى التغافلِّ عن مدى أهميتها وضرورتها لدى صاحبها، وكانت النتيجة آلاف الدراجات المصادرة، الأمر الذي جعل النقمة تتفاقم ضد السياسات الحكومية على مختلف الأصعدة، وكانت هذه جزءاً من مسببات الاحتقان الشعبي الذي أدى نتيجة اختزانه بعدد هائل من الجزئيات المماثلة إلى تفجر الاحتجاجات والمظاهرات..

سياسات سببت الاحتقان

أصدرت وزارة الداخلية قرارها القاضي بمصادرة الدراجات النارية في جميع المحافظات السورية، عن سابق قصد أو أنها لا تدري ما أهمية هذه الدراجات لدى أبناء الريف، وخاصة المزارعين، فهي وسيلة تَنقُّلِهم ونقلهم لأدواتهم وخدمة حقولهم، وهي بالنسبة للبعض الآخر (باب رزق) تعمل على توصيل المواطنين وتأمين نقلهم ومواصلاتهم بين المفارق الممتدة على خطوط النقل العامة والقرى البعيدة في الأرياف المترامية الأطراف. وجاء قرار وزارة الداخلية دون سابق إنذار أو مقدمات أو مبررات، وبدأت المطاردة في كل مكان لتلك الدراجات التي كانت تشكل الوسيلة الأساسية لانتقال المواطنين والمزارعين بين الأرياف ومن وإلى حقولهم وقضاء حاجاتهم بأيسر السبل وأقل الأضرار البيئية والاقتصادية!

وتم تنفيذ هذا القرار بطريقة تثير الحقد والاحتقان لدى المواطنين ضد الدولة، فقد كانت الكثير من عمليات المصادرة تتم عبر مداهمة البيوت دون استئذان، والبحث عن دراجة أبلغ عنها أحد المخبرين لتتم مصادرتها، أو مطاردة راكبي الدراجات في الشوارع وتعريضهم لحوادث أثناء الملاحقة، لأن البعض من مالكيها يحاولون الهرب بدراجاتهم كي يبقوا محتفظين بها نظراً لأهميتها الكبيرة بالنسبة لهم.

فماذا تركت الحكومة السابقة للفلاحين وأبناء الريف؟! فقد دمرت زراعتهم بالبذار الفاسد وغلاء مستلزمات وأدوات الإنتاج، وفي بعض بلديات القرى لا يُسمح للفلاح بتربية بقرة بجانب بيته أو دابة أو عشر دجاجات، وبعض قوانين الإدارة المحلية لا تسمح له ببناء بيت ريفي لأبنائه في أرضه الزراعية، وها هو أخيراً لا يحق له اقتناء دراجة نارية ينتقل بها بين الحقل والبيت ويقضي بواسطتها حاجاته البَيتية الضرورية، وهنا نسأل: ماذا يحق لأبناء الريف بعد؟! ألا يحق لهم التظاهر والمطالبة بتحسين الوضع المعيشي ورفع الظلم؟!

الدراجة النارية عصب الحياة الريفية

استغرب الكثير من المواطنين مالكي الدراجات قرارَ مصادرة هذه الدراجات وإتلافها، والبعض منهم اعتبر القرار عملاً تخريبياً لإثارة حقد المواطنين ضد الدولة. وبعضهم استحسن هذا القرار للتخلص من راكبي الدراجات المشاغبين والزعران، ومن أجل معرفة تأثير هذا القرار وسيئات تنفيذه كان لـ«قاسيون» لقاءات مع مواطنين صودرت دراجاتهم، وزودونا بالتصريحات التالية:

ـ المواطن محمود ع قال: «إن هذه الدرجات التي تمت مصادرتها هي عصب حياتنا في الريف، وهي وسيلتنا للتنقل بين منازلنا وحقولنا، وهي كما نقول بالمثل الشعبي (هي رجلنا ويدنا) وإن مصادرة الدراجات في الريف أقعدت المزارعين وأبقت الكثير من الأراضي دون رعاية ، وهذه الحملة أجبرت المواطنين على شراء دراجات جديدة، فهي من الأهمية بحيث لا يستغني عنها الفلاح، بغرض الذهاب إلى الحقل في الفجر أو عند الغروب إن كان للسقاية أو لحمل أدواته أو لأية غاية يستفيد منها الفلاح في عمله، وإن هذه الخطوة قصَّرت أيدينا وأضرت بزراعتنا وخدمتنا لأرضنا، وبالتالي أضرت بالإنتاج، الأمر الذي صعَّب علينا تسيير أمور معيشتنا، وفي البحث عن السبب من المؤكد أن يتأجج الغضب ضمن نفوس الفلاحين على هذه الممارسات التي ما كانت يوماً لمصلحة  المواطنين».

ـ المواطن عبد القادر الذي التقيناه على مفرق طريق من مدينة النبك إلى القرى المحيطة بها، قال: «إن هذه الدراجات هي وسيلتنا الوحيدة للوصول إلى قرانا، وقد حرمتنا حملة المصادرات هذه من الراحة والسهولة في الوصول إلى قرانا وبيوتنا، وكذلك فإنها الوسيلة الوحيدة لكسب لقمة العيش بالنسبة لمن كان يقوم بخدمة التوصيل، والتي كانت كثيراً ما تخلق جواً من الإلفة والتواصل الاجتماعي بين المسافرين والناقلين ، وهذه الخطوة أيضاً حرمت الكثيرين من المواطنين من باب رزقهم الذي تحايلوا به على صعوبة الأيام، وإذا كان لابد من مصادرة الدراجات بحجة الإزعاج أو بحجة استخدامها لوسائل غير مشروعة ، فكان الحل الأمثل باتخاذ الخطوات الضرورية جداً والهامة لحياة الناس في الأرياف المترامية الأطراف ، وهي وجوب اقتران هذه الحملة، أو حتى قبل البدء بها ، بتأمين المواصلات لجميع  القرى والأرياف ، وربطها بشبكة طرق جيدة تحكمها قوانين جيدة  وصحيحة» 

حجة منطقية لحملة ظالمة

ـ المواطن حسان الصباغ قال: «أنا مع تنفيذ هذه الحملة ضمن شق واحد منها، ولكنها ظالمة للكثير من المواطنين في الشق الآخر، فالدراجات النارية في المدن المكتظة والشوارع المزدحمة قد تسببت بالكثير من الحوادث المؤلمة والمميتة أحياناً، والأمر لم يعد يتوقف عند حاجة الأهالي لهذه الدراجات، وإنما أصبحت هذه الدراجات وسيلة للتسلية والتشفيط وإشاعة الضجيج والرعب، فالدراجات التي يقودها المراهقون وتجوب الشوارع وهي تنطلق كالشهب وتطلق الأصوات المريعة المزعجة، أصبحت تشكل عبئاً  ثقيلاً على الناس والشوارع والطرقات ، وخاصة عندما يستعملها المراهقون والصبية لمعاكسة الفتيات على أبواب المدارس وإزعاج المارة وخلق الفوضى ودب الرعب والهلع في قلوب التلاميذ، والقيام بحركات بهلوانية، هنا فقط تكون مصادرة الدراجة النارية مفيدة، ولكننا لا نلبث أن نرى هذه الدراجات تعود من جديد إلى الشوارع، لذلك بدلاً من المصادرة، كان من المفروض إيجاد حل جذري لهذه الظاهرة السيئة، وذلك بقيام كل الجهات بتنفيذ مسؤولياتها الأساسية، فعلى وزارة الداخلية تكليف دوريات خاصة للدراجات النارية على الطرق العامة والمحاور الرئيسية وبالقرب من الحدائق العامة والمنتزهات وأمام المدارس، لقمع هذه الظاهرة، وقبل خطوة الملاحقة والمصادرة كان من المفروض نشر الوعي والثقافة المرورية بين جميع المواطنين باستخدام جميع الوسائل المتاحة وخاصة الإعلامية، وتطوير شبكة الطرق العامة والاهتمام بوسائل السلامة المرورية، للحد من حوادث السير». 

الإضرار بالمواطنين خدمةً للمتنفذين

ـ المواطن إسماعيل س. قال: «تذرعت الحكومة بأسباب متعددة وكاذبة لمصادرة الدراجات، فمرة قالت لأنها مهربة وغير مرخصة ومع ذلك فقد تمت مصادرة الدراجات المرخصة مع المهربة ضمن الحملة، ومرة قالت لا يستوفي سائقوها الشروط القانونية لقيادتها من رخصة القيادة إلى وضع الخوذة، ومع ذلك تمت مصادرة دراجة من يحقق هذين الشرطين، ومرة تذرعت بالإزعاج والحوادث التي تسببها الدراجات النارية في المدن والأحياء المزدحمة، ومع ذلك صادرت الدراجات في القرى والأرياف التي يحتاج أهلها للدراجة كوسيلة نقل ووسيلة معيشة، من هنا أرى أن مصادرة الدراجات ليست أكثر من لعبة التجار المدعومين بالتعاون مع أصحاب القرار، ومن المؤكد أنه بعد الانتهاء من حملات المصادرة هذه ستعود الدراجات إلى الانتشار في الشوارع أكثر من ذي قبل، والتجار الآن يقومون باستيراد المزيد من هذه الدراجات وإدخالها إلى البلد بصورة قانونية وأحياناً غير قانونية، فإذا كانت الدراجة ممنوعة فكيف تسمح الدولة باستيرادها؟! من هنا أيضاً نرى أن الدولة تعلم بحاجة الكثير من المواطنين لهذه الوسيلة الهامة لحياتهم، وتعلم أنه لا يمكن تسويق المستورَد الجديد في ظل امتلاك معظم المواطنين لها، ولا حل لهؤلاء التجار بتصريف دراجاتهم المستوردة سوى بالتواطؤ مع الجهات المسؤولة بإصدار قرار مصادرة الدراجات الموجودة بين أيدي المواطنين ليقوموا بشراء البديل، نظراً لحاجتهم الماسة لها، فمن هم هؤلاء التجار؟! ومن يدعمهم ويسمح لهم بالتلاعب باحتياجات المواطنين؟ فهل من العدل أن تراعي القرارات والممارسات الحكومية متنفذاً ومصالحه الشخصية الطماعة على حساب إيذاء وإضرار شرائح كبيرة من المواطنين السوريين؟!».

قرار خاطئ وتنفيذ سيئ

في كثير من مراكز المحافظات أقدمت قيادات الشرطة على تنظيم حملات واسعة قامت بمصادرة حوالي 22 ألف دراجة، الأمر الذي أشاع حالات من الاستياء لدى سكان المناطق التي يعتمد أهلها على هذه الوسيلة في تنقلاتهم وتسيير أمورهم، وقد رافق تنفيذ هذه القرارات الكثير من الظواهر الخطيرة التي أججت احتقان المواطنين وغضبهم من هذا القرار ومنفذيه، فقد أقدم أصحاب دراجات مصادرة في ناحية أرمناز في إدلب على إحراق سيارة مدير الناحية، ولم تتمكن آليات الإطفاء من إخماد النيران فيها، وفي ناحية سرمين تدهورت سيارة مدير الناحية أثناء ملاحقته دراجة نارية يمتطيها مزارع، وقذف أصحاب دراجات نارية مصادرة في أريحا عناصر الشرطة بالزجاجات الفارغة تحت يافطة (لا يجبرك على المر سوى الذي أمر منه). وفي حلب توفي شاب في العقد الثاني من العمر أثناء مطاردة دورية لفرع مرور حلب له خلال قيادته لدراجة نارية في حي المرجة، الأمر الذي دفع الشاب لزيادة سرعته قبل أن تتدهور دراجته ويدهسه باص للنقل الداخلي على خط الدائري الجنوبي.

إن قرار مصادرة الدراجات النارية هو سلاح ذو حدين، تم التذرع ببعض المخالفات والحوادث لتنفيذه خدمةً لأحد المتنفذين، والذي حصل على رخصة استيراد دراجات كهربائية، لعلمه أن الكثير من المواطنين لا يستطيعون الاستغناء عنها كوسيلة نقل بين القرى أو للفلاح للوصول إلى حقله أو لاستخدامها كوسيلة لتحصيل لقمة العيش أو لتسيير الأمور الحياتية اليومية، ولو كان سبب المصادرة فقط المشاكل والحوادث والإزعاجات التي تسببها الدراجات، لما سمحت الدولة باستيراد البديل عن المصادَرة، أو لكانت اكتفت بمصادرة الدراجات في مناطق يحددها قانون يحظر دخول الدراجات النارية إلى الشوارع الرئيسية بالمدن، ويحظر تواجدها أمام المدارس والحدائق العامة، وفي حال عدم الالتزام تتم مصادرة الدراجة، أما أن تُنفَّذ قرارات المصادرة على المزارعين وساكني المناطق الريفية، الذين تعتبَر الدراجة من أهم الوسائل لحياتهم اليومية، بالتساوي مع المراهق الذي يزعج المواطنين ويسبب المشاكل، فهذا لا يجوز، ويجب الفصل والتحديد ضمن قرارات وقوانين مدروسة وواضحة، تأخذ بعين الاعتبار مصالح الشرائح الكبرى في مجتمعنا السوري المناضل.