أيها الشجعان!
ميدان التدريس حافل بما لا يعد ولا يحصى من المواقف الوجدانية والفكرية، والعلاقات والأحداث المتنوعة المتباينة، لكن عمودها الفقري يبقى متمثلاً ومتجسداً بالصلات الحميمة بين مدرس يعطي ما في قلبه وذهنه، وبكل شرف المهنة الجليلة، وبين طلاب يتلقون هذاالعطاء علماً وثقافة وسلوكاً وتربية تكون زاداً لهم في سعيهم نحو مستقبل يحلمون أن يكون سعيداً ومشرفاً. وعن هذا العطاء قال الشاعر:
ياندي الراحة البيضاء تعطي
كل ما في القلب والذهن أصولا
كم تعاني فوق ما تقوى جسوم
وتسير اليوم بالجهد رسولا
واليوم أستعيد من ذلك الميدان الذي عملت فيه قرابة نصف قرن بعض الذكريات، ففي منتصف ستينيات القرن الماضي وكنت أدرس طلاب المرحلة الثانوية مادة الأدب العربي.. وخلال درس أدب العصر الجاهلي للصف العاشر كتبت على السبورة نص قصيدة لعنترة بنشداد العبسي ومنها البيتان التاليان:
هلا سألت الخيل يا بنة مالك
إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
يخبرك من شهد الوقيعة أنني
أغشى الوغى وأعف عند المغنم
وبعد أن شرحت معنى «أغشى الوغى» رفع طالب يده مستأذناً بالكلام وقال: أنا لا أخاف يا أستاذ!، وعلى عادة طلاب هذه المرحلة اندفع عدد منهم بحيوية الفتوة والشباب ليظهروا «قدراتهم» ودعموا زميلهم في موقفه، فهم مثله لا يخافون! فقلت لهم: مرحى لكم عشتم أيهاالشجعان. وتابعت إلقاء الدرس، ولكن بصوت خافت يكاد لا يسمع، مما أضفى على جو الدرس هدوءاً واضحاً، وغدت آذان الطلاب متفتحة بكل طاقتها لتسمع كلامي وفجأة دوى صوتي بقوة لم يتوقعها طلابي هادراً: هكذا يكون الأبطال فانتفض الطلاب وقد باغتهم ارتفاعالصوت، ثم عاد «الوضع» إلى طبيعته، ودبت الحركة من جديد، وارتسمت الابتسامات على وجوههم.
فقلت لهم: يا أبنائي إن الخوف إحساس ينتاب الناس في أوقات وظروف تعترضهم وتصدمهم، وما من إنسان في الدنيا لا يخاف، والشجاع هو وحده من يتمالك نفسه ويسيطر على خوفه، وقدمت لهم بعض الأمثلة والشواهد على حقيقة ذلك ومنها بعض ما مر معي فعلاًوبخاصة خلال الخدمة العسكرية وأذكر منها ثلاثة أحداث:
الأول حين كنا نتدرب في سلاح المدرعات على إطلاق قذائف مدافع الدبابات... ففي كل دبابة خمسة جنود، وجميعهم يشاركون بالتسلسل في الرماية، وعندما جاء دوري في الرمي أمرني قائد السرية عن طريق جهاز اللاسلكي الموضوع ضمن القلنسوة التي تغطي رأسي،بتهيئة القذيفة، ففتحت «المغلاق» وأودعت القنبلة في حجرتها بأسفل السبطانة، وعند إيعاز الرمي ضغطت على زناد المدفع، فلم تنطلق القذيفة، فارتبكت قليلاً ثم فتحت المغلاق لأتبين إن كان هناك خطأ في آلية الرمي، وحملت القنبلة فإذا بدخان يتصاعد، فتملكني الخوفووقف شعر رأسي ومضت ثوان رهيبة، لم أصح منها إلا على صوت قائد السرية في أذني: ماذا جرى، لماذا لم تطلق النار؟ فتمالكت نفسي وأدركت حينها أن الدخان ليس من القنبلة بل هو بقية من دخان القذيفة السابقة التي رماها زميلي قبلي. فأعدت التلقيم وضغطت علىالزناد ودوت القذيفة وأنا أضحك مما جرى معي!
والثاني حدث أثناء قيامنا بتدريب مناورة كان دورنا فيها نصب كمين للإيقاع بالمهاجمين في مرمى نيراننا، وكنا منبطحين بين الأعشاب الطويلة وقد موهنا أجسامنا بأغصان أشجار. وكان مكاني قريباً إلى حد ما من جدار ترابي عريض، مر فوقه أحد المهاجمين وكانضخم الجثة ليقفز بعدها إلى الأرض، فملأ الخوف قلبي من أن يقفز على ظهري فيحطمه، وبخاصة أنني لا أستطيع القيام بأية حركة حتى لا يكتشف الكمين فتفشل كل الخطة، وكان حظي كبيراً إذ قفز على بعد متر تقريباً من موضعي، «ومرت كما يقولون على خير»ونجحنا في الإيقاع بهم! والثالث وقع معي في منطقة «أم الشراطيط» القريبة من «سعسع» حيث كنا نعسكر هناك ضمن خيام إلى جانب دباباتنا، وفي إحدى الليالي ونحن على وشك النوم، دخل أحد زملائنا المشهور بمزاحه وخفة دمه، وبعد أن حيانا التفت نحوي وقال:تحت مخدتك حية! فجلست ورفعت المخدة وإذا أنا وجهاً لوجه مع حية ترفع رأسها وتحرك لسانها فتملكني خوف عاصف لم ينقض إلا حين رأيت أحد زملائي يهوي بضربة «رفش» على رأسها فيقتلها، وأنا غير مصدق ما تراه عيني.. حين تحولت المزحة إلى حقيقةمخيفة!