من الذاكرة: مشاركة وجدانية

تعبر أفق ذاكرتي اليوم مفارقة طريفة تتمثل في عبارة كان سكان دمشق يستخدمونها عبر عدة عقود من الزمن، والعبارة هي «نازل ع الشام» أو «نازل ع البلد» يقولونها حين ينوون الذهاب إلى مركز المدينة (ساحة المرجة- ساحة الشهداء فيما بعد)، وقد سمعتها من أبي ومن آخرين كثيرين وأنا استعملتها خلال عشرات السنين، ولم أكن أدرك خلال مرحلة الطفولة وحتى بداية مرحلة الشباب سبب استخدام هذا «المصطلح» إلى أن سمعت تفسيراً له من جار مسن، خلاصته أن دمشق القديمة هي مدينة دمشق، وأن الأحياء التي أقيمت حولها وعلى مسافات مختلفة منها شقت دروباً لها تصلها بالمدينة ومن الطبيعي حينها أن يقول سكان تلك الأحياء الذين يقصدون مركز المدينة إنهم ذاهبون إلى الشام (اسم المدينة في ذلك الزمن).

ومع اتساع تلك الأحياء امتدت الأبنية حتى اتصلت بمباني المدنية القديمة، ومع ذلك بقى «مصطلح نازل ع الشام أو ع البلد» ساري المفعول إلى فترة طويلة!
وفيما بعد مدت سكة الحافلات الكهربائية (الترام- الترامواي) عبر الطرق الموصلة من الأحياء إلى المرجة، وكان خط المرجة الجسر الأبيض أول تلك الخطوط ثم امتد هذا الخط إلى كل من حي المهاجرين وحي الشيخ محي الدين، إضافة إلى خطوط بقية أنحاء المدينة وهي (الميدان- القصاع- حرستا- ودوما) وكلها تصب في ساحة المرجة.
ومن أولى ذكريات تلك المرحلة تعرفي على ضفة نهر بردى الممتدة ما بين جسر فيكتوريا وفندق الشرق (عمر الخيام فيما بعد) المطل على المرجة، حيث يمتد مجرى النهر (قبل أن يُغطّى)، وما زلت أتذكر كثيراً من المحلات والمباني في تلك المنطقة ومنها محل طوطح لبيع دواليب السيارات، ومحل «النشيان» على بعد أمتار قليلة من جامع فضل الله البصراوي، والآن استعيد تذكر «تفاصيل» ذلك المحل الذي كانت تديره امرأة شابه، وفي مقدمته (منصة خشبية يتكئ بمرفقيه عليها من يريد استعمال بارودة الخردق) للتدريب على التسديد وإصابة الأهداف وهي مجموعة صناديق معدنية في صدر المحل على كل منها علامة مميزة على شكل دائرة، وعند إطلاق الرمي تظهر النتيجة مباشرة فإن أصاب الهدف أصدر الصندوق المستهدف من فتحة صغيرة فيه أصوات نغمات موسيقية، وإن لم يصيب الهدف بقيت «الفتحة» مغلقة دون أي صوت إضافة إلى هدف متحرك متمثل بكرة شمعية صغيرة بيضاء تعلو نافورة ماء من بحرة جد صغيرة تتوسط المحل، ترتفع وتنخفض بارتفاع وانخفاض النافورة وكنت أقف على مقربة من جانب المحل لأتابع رمايات الزبائن بكل انجذاب، فإن أفلح الرامي وأصاب الهدف غمرني شعور عارم بالفرح، وإن لم يفلح اعتراني شعور بالحسرة والأسف.