جرمانا: «ألعابٌ أولمبية».. وظلمٌ بالمناصفة

جرمانا: «ألعابٌ أولمبية».. وظلمٌ بالمناصفة

في واحدٍ من المشاهد الاعتيادية في جرمانا، ينفجر أحد كابلات الكهرباء باعثاً منظراً وصوتاً يبدوان للوهلة الأولى أن ألعاباً أولمبية قد جرى افتتاحها في البلدة. في مشهدٍ آخر، يظهر أحد عمال الطوارئ معلقاً في الهواء لوقتٍ ليس بالقصير، وقد فقد وعيه بعدما صعقه أحد كابلات الكهرباء المتشابكة: لعلَّ صعقة «معاش آخر الشهر» لم تكفه!

بين ساعات التقنين الطويلة، والأعطال الناجمة عن الحمولة الزائدة أو سوء صناعة الأسلاك الكهربائية المستخدمة، أنفق سكان جرمانا كل ما ابتدعوه سابقاً من «حلولٍ» إسعافية ومؤقتة. عشرات العرائض التي جرى توقيعها في عددٍ من أحياء البلدة اصطدمت بآذانٍ صماء وحائطٍ يدرك المتنفذون آلية تحصينه. هنا، اعتاد السكان على أن يتغيِّر رئيس قسم الطوارئ كل سنة، بينما لم ينعموا يوماً بـ «بقرار» أو «مأثرةٍ» حكوميةٍ تضع حداً للجور والإجحاف الواقع عليهم.
التقنين أرحم!
من أصل 24 ساعة، يشغل نظام التقنين الكهربائي 12 ساعة من حياة السكان. ليس ذلك بالأمر الجلل، فسكان البلدة كانوا قد «تماشوا» سابقاً مع نظامٍ فرض عليهم تقنيناً لمدة 16 ساعة يومياً ولشهورٍ عدة. وبالرغم من ذلك، لم تتوقف مشكلة السكان عند نظام التقنين. حيث تشهد البلدة منذ فترةٍ طويلة ارتفاعاً ضخماً في عدد الأعطال الكهربائية المتكررة. في السابق، كانت شماعة الإرهاب حاضرة لدى المتنفذين في جهاز الدولة، حيث كان يجري إرجاع كل الأعطال الكهربائية في جرمانا إلى العمليات الإرهابية التي تعرضت لها محطات توليد الطاقة في المناطق المشتعلة سابقاً بمحيط البلدة. ورغم تغير الواقع الميداني في تلك المناطق، ما تزال أزمة الكهرباء على حالها، من دون أي تغييرٍ يذكر.
وفي أسباب استمرار الأعطال الكهربائية تبرز الحمولة الزائدة في مقدمتها. حيث أن الاستهلاك الزائد للكهرباء، نتيجة الاعتماد الواسع عليها بديلاً لانعدام وسائل التدفئة مع ارتفاع أسعار المحروقات، وتكثيف الاستهلاك في الساعات الخارجة عن التقنين، يشكلان أحد الأسباب المؤدية إلى الأعطال، فضلاً عن الاستجرار غير المشروع و«انعدام» إمكانية ضبطه جراء شبكات الفساد التي تركز على عمليات السرقة الصغيرة للكهرباء، وتغض الأبصار عن الكبيرة منها.
وغالباً ما تحترق الكابلات الكهربائية، بعد أيامٍ قليلة من تجديدها. ويعود ذلك إلى سببين رئيسيين. أولاً: هناك العديد من الأبنية العشوائية التي تمت تغذيتها اعتماداً على شبكات الكهرباء الموجودة أساساً لتكفي عدد معين من الأبنية. وتكثر المؤشرات في هذا السياق إلى وجود قضايا فساد في تغذية تلك الأبنية، حيث كشفت مصادر محلية لـ«قاسيون» عن أن «مبالغ طائلة دفعت من قبل أصحاب هذه الأبنية لمسؤولين في طوارئ الكهرباء لتغذيتها، هروباً من دفع المستحقات المالية المترتبة على عملية التغذية.. وغالبية هؤلاء هم من تجار العقارات والمؤجرين».
 وثانياً: تتسبب نوعية الكابلات الكهربائية، التي تأتي في كثيرٍ من الأحيان سيئة، بكثيرٍ من الأعطال، نتيجةً لعوازلها غير القادرة على تحمل الضغط الكافي من الكهرباء، وهنا أيضاً تتكشف التساؤلات حول الإصرار على هذا النوع من الكابلات، وتتوجه أصابع الاتهام إلى المعنيين باحتمالات قضايا فساد أخرى.
العمال يتناصفون الظلم مع المواطنين
لدى حصول عطل، وفيما لو فكر المواطن أن يتقدم بشكوى هاتفية لدى مكتب طوارئ جرمانا، سيتحتم عليه الانتظار لساعاتٍ ربما. فمن بين ثلاثة خطوط هاتفية مخصصة للقسم، واحدٌ فقط هو قيد الاستخدام! في هذه الحالة، ستكون الخطوة التالية لدى «المواطن العنيد» هي التوجه إلى مكتب الطوارئ لتقديم الشكوى بشكلٍ شخصي. وفيما لو حالفه الحظ ووجد المكتب مفتوحاً أمامه، فلن يجد سوى الموظفين الإداريين، وسيتعين عليه تبعاً لذلك، تسجيل شكواه في قائمة طويلة قد تشمل عشرات الشكاوى.
أدوات أساسية غير موجودة
في الواقع، يعاني مكتب طوارئ جرمانا من نقصٍ حاد في الكوادر الفنية، حيث لا يتجاوز عدد عمال الطوارئ الفنيين العشرين عاملاً، في بلدةٍ يقطن فيها ما يزيد عن المليون مواطن! ومن جهةٍ أخرى، يعاني هؤلاء العمال من الصعوبة في الحصول على العدة الأساسية للعمل، أو في اهتلاك الجزء الأكبر منها. ابتداءً من العدة الخاصة التي تشمل «بينسة أصلية، كفوف عزل، أحذية عازلة (غير موجودة)، مفاتيح شق، بينسة أمبير، موس أعوج (أداة لفتح الكابلات)، كواشف ضوء.. إلخ». مروراً بالعدة الجماعية، التي يجبر العمال نتيجة لتهالك مكبس الهيدروليك، على سبيل المثال، إلى الاستعاضة عنه بالمطرقة! وصولاً إلى رافعات السلة التي غالباً ما تكون غير آمنة على حياة العامل، نتيجة تهالكها أو الخلل في حركتها الهيدروليكية. أما آليات الخدمة، فتتوقف في أغلب الأحيان بسبب نقص الوقود اللازم لها.
كل ذلك أهون على العامل من تحمل مشاق مراكز التحويل «المطمورة»، والتي تكون بوابتها على مستوى الأرض. حيث أن النزول إليها يجري عن طريق سلم حديدي، وهو ما يشكل خطورة على العامل عندما يريد إنزال مواد الصيانة إلى المحولة. فضلاً عن صعوبة إسعافه في حال تعرض للإصابة وهو بداخلها.
يجري ذلك في ظلِّ سلب الحقوق الأساسية لعمال الطوارئ، كإلغاء أو تخفيض الحوافز المالية للعمال (نتيجة لربطها بالفاقد الكهربائي. وكأن تكلفة الاستجرار غير المشروع يجب أن تقع على كاهل العامل!). وفوق ذلك، جرى تخفيض نسبة تعويض العمل الإضافي إلى حدود 25%، هذا فضلاً عن النسبة المخزية لتعويضي طبيعة العمل وخطورة العمل والتي لا تتجاوز الواحدة منهما 7% من أصل الراتب. أما بدل الوجبة الغذائية، فتبلغ في إحدى الحالات التي عاينتها «قاسيون»، 46 ليرة في اليوم (أي أنها تكفي العامل كي يشتري نصف سندويشة فلافل حسب أسعار اليوم).

خطوات نحو حل المشكلة

خلال بحثها عن حلولٍ من شأنها أن تخفف من وطأة معاناة الكهرباء، استقصت «قاسيون» آراء عددٍ من أهالي البلدة وبعض عمال الطوارئ، حيث أن التقاطعات في رؤية الغالبية منهم تفيد بضرورة تغذية الأبنية العشوائية في البلدة اعتماداً على محولاتٍ خاصة فيها، من دون الاعتماد على المحولات والشبكات التي تعاني أصلاً من مشاكل في أدائها، إذ من شأن العمل على ذلك أن يخفف من الأعباء الإضافية التي يتم تحميلها للعمال، وتتضرر منها الغالبية الساحقة من المواطنين. كذلك يستلزم التوقف عن منطق الحلول التجميلية والمؤقتة، ووضع خطة عمل لمعالجة المشكلة من أساسها، والتوقف عن اجترار الحديث الرتيب حول الازدياد المضطرد لأعداد سكان جرمانا، وموجات النزوح إليها، إذ لا تكفي الإشارة إلى أسباب الظاهرة، بل مباشرة العمل للتكيف وفق الظروف التي تمر فيها البلاد عموماً. إلى ذلك، يجب التشديد على ربط عدد العمال الفنيين والآليات اللازمة لعملهم بعدد المشتركين، ما يضع حداً لمعاناة المواطنين ويوقف استنزاف طاقة العمال الموجودين الآن.