القطاع الخاص أيضاً.. في قبضة الفساد!
يتكون القطاع الخاص في سورية في غالبيته الكبرى من شركات عائلية، وعلى الرغم من أن المرسوم رقم 61 لعام 2007 قد أعطى لأرباب العمل حوافز جمة، من أهمها تخفيضات ضريبية تراوحت بين 0.5% إلى 2% للتحول إلى شركات مساهمة باعتباره الشكل الأمثل للهيكل الاقتصادي للقطاع الخاص، والمؤهل أكثر من غيره للمساهمة في زيادة الناتج المحلي ورفع نسب النمو، وذلك
تمهيدا لفسح المجال له لدخول سوق البورصة السورية؛ إلا أن النتائج كانت أنه من بين عشرات الآلاف من الشركات العائلية، والتي يصعب تحديد عددها بدقة بسبب أن تسجيلها يجري في مديريات التجارة الداخلية في المحافظات وليس في الإدارة المركزية، تحولت 40 شركة فقط منها إلى شركة محدودة المسؤولية، أي أنه على الرغم من كل المغريات التي قدمها المرسوم 61، فإن غالبية شركات القطاع الخاص بقيت شركات ذات طابع فردي وعائلي.
ومن المعروف أن منظري الخطة الخمسية الحادية عشرة قد فسحوا المجال أمام القطاع الخاص لضخ بين 2000 إلى 2300 مليار ليرة، وسمحوا لهذا القطاع بشكل خارج عن العادة، بل وعن الدستور السوري، للاستثمار في البنية التحتية تحت حجة أن الدولة عاجزة عن رصد الاعتمادات الكاملة لتنفيذ الخطة القادمة .
إن أشد ما يثير الدهشة والاستغراب الجواب على السؤال التالي: هل يعرف فريقنا الاقتصادي المصر على سياسة التشاركية مع القطاع الخاص بأن الفساد الذي ينخر هيكل هذا القطاع لا يقل أبداً عما هو موجود حالياً في قطاع الدولة، هذا إن لم يكن أكبر وأشد نهباً؟ وأن الإصلاح الاقتصادي الذي يتحدث عنه الفريق الاقتصادي منذ سنوات، والذي لم يتحقق منه شيء حتى الآن يجب أن ينفذ بالقطاع الخاص أيضاً، حيث يجري وبشكل مقصود التلاعب بالميزانيات السنوية والتي عادة ما تنظم على شكل ميزانيتين الأولى مخفضة ووهمية ومزورة، وهي التي تقدم للدوائر المالية للتكليف الضريبي، والأخرى الحقيقية والتي يجري إخفاؤها عن أعين المراقبين الماليين، ناهيك عن إخفاء الأسعار والأعداد الحقيقية للآلات المتواجدة في المنشأة؟.
إن التوقف عن التهرب الضريبي الذي يقوم به القطاع الخاص منذ نشوئه وحتى الآن، والمستمر رغم كل الإعفاءات والمغريات التي قدمت له، كاف وحده لتأمين المبالغ الضرورية لتنفيذ أية خطة خمسية على الوجه الأكمل والأمثل، ودون الحاجة لاستثماراته. والمشكلة الكبرى أن التهرب الضريبي ليس هو المرض الوحيد المصاب به القطاع الخاص فقط، فهو تماماً كالقطاع العام، يعاني من فساد كبير يتمثل في المبالغ المنهوبة من كبار العاملين فيه. فمن المعروف أن إدارة الشركات العائلية غالباً ما يتم من جانب إداريين يعينهم أصحاب الشركات، ونسبة قليلة من يقومون بإدارة منشآتهم بأنفسهم، وبالتالي فإن هذا الوضع الذي تغيب فيه المحاسبة الجدية يفسح المجال للفاسدين بالنهب المنظم الكبير، وذلك عبر تضخيم أسعار المواد الأولية التي تشكل مدخلات الإنتاج، فيؤدي ذلك لمنتج غالٍ بمواصفات متدنية. ويستطيع العارف ببواطن الأمور أن يرى هذه الظاهرة لدى شركات الألبسة وشركات الإعمار والمشاريع العمرانية والشركات الغذائية وشركات التعهدات المختلفة بشكل فاقع ومفضوح.. ومع ذلك فإن الفريق الاقتصادي مصر إصراراً لا حدود له لفسح المجال واسعا أمام هذا القطاع الفاسد، الذي لا ضوابط له ولا وجود لأية محاسبة جدية يمكن أن تواجه أعماله، سواء أكانت هذه المحاسبة ذاتية من داخل المنشأة أو خارجية من جانب المؤسسات الإنتاجية والمالية الضريبية والجمركية. وما جرى من انهدام سقف مستعار في مطار دمشق الدولي وسوء تنفيذ التحسينات على هذا المطار وتجاوزت مئات الملايين من الليرات السورية هو دليل عملي على هذا الفساد.
لقد حمى القطاع العام اقتصاد سورية منذ نشأته وحتى الآن، رغم كل الفساد المستشري به، ورغم كل عمليات تخسيره ونهبه، ودعم ومايزال خزينة الدولة بعشرات المليارات. ولكن لو تعرض اقتصادنا لهزات جديدة، فما الذي يمكن للقطاع الخاص هذا أن يفعله وهو يعاني من ضعف في التخطيط والتنفيذ وضعف في الإدارة نتيجة العقلية العائلية السائدة فيه؟ إن فسح المجال أمام القطاع الخاص للاستثمار في البنية التحتية رغم خطورته الكبرى لنهمه للربح فقط، لن ينتج عنه إلا بنية تحتية ذات نجوم خمس غير قادرة على تخديم إلا القادر على الدفع، أي أصحاب رؤوس الأموال من ذوي المداخيل غير المحدودة. وستكون هذه البنية حينئذ مغلقة إغلاقا محكماً أمام باقي جماهير الشعب السوري، ولن تتجاوز القيمة الفعلية لهذه الاستثمارات بحسب العادة 500 مليار ليرة.. في حين ستتجاوز قيمتها الاسمية أي الوهمية ربما 2300 مليار ليرة المطلوب استثمارها فيها. أضف إلى ذلك أن الاستثمار في البنية التحتية يعني استثماراً ريعياً، وبعلم الاقتصاد فإن الاستثمار في القطاعات الريعية لن يحقق ويرفع من نسب النمو المطلوبة، ومساهمته في رفع الناتج المحلي ستكون ضئيلة في أحسن الأحوال، بل ومعدومة في غالب الأحيان.