الدستور.. وسيادة القانون.. وحقوق المواطنين!
يعتبر الدستور أبا القوانين، ويعرف بأنه القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة (بسيطة أم مركبة)، ونظام الحكم (ملكي أم جمهوري)، وشكل الحكومة (رئاسية أم برلمانية)، وينظم السلطات العامة فيها من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات التي بين السلطات وحدود كل سلطة والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات ويضع الضمانات لها تجاه السلطة.
وتاريخياً فإن كل أنظمة الحكم في العالم، بما فيها أنظمة الحكم الاستبدادية القمعية البوليسية، تؤكد حرصها على وجود كتيب أو كتاب اسمه «الدستور»، يوجد به أروع وأجمل ما عبرت عنه التطلعات الإنسانية لأنظمة الحكم، ولكن في الممارسة على أرض الواقع يكون أبعد ما يكون عن نصوص الدستور، ولذلك فهناك مجموعة من الشروط التي يجب أن يخضع لها أي نظام حتى نقول بأن هذا النظام هو نظام دستوري أم لا، وأهمها على الإطلاق أن يكون الدستور مطبقاً تطبيقاً فعلياً، بحيث تتشكل الحكومة وفقاً لأحكامه وشروطه وتباشر الاختصاصات التي منحه لها، فإذا لم تتشكل الحكومة وفقاً لأحكامه أو مارست اختصاصات لم يمنحه لها فإن ذلك يتنافى مع قيام النظام الدستوري، ولكن ما الذي يمكن أن يساعد في التطبيق الفعلي للدستور؟ إنه يتعلق دون أدنى شك بتوازن القوى الطبقية في المجتمع، فكلما كانت الشعوب واعية لذاتها وقادرة على أن تشكل قوة نوعية لا يستطيع النظام تجاهلها كان التطبيق فعليا وحقيقيا، ودون ذلك يصبح الدستور وتطبيقه في خبر كان، ثم لا بد من الأخذ بمبدأ تدرج القواعد القانونية، وهذا المبدأ يعني أن القواعد القانونية التي يتكون منها النظام القانوني في الدولة ترتبط ببعضها في تدرج هرمي فهي ليست في مرتبة واحدة وإنما تتدرج فيما بينها، مما يجعل بعضها أسمى مرتبة من البعض الآخر حيث لا يجوز لقاعدة قانونية أدنى أن تخالف قاعدة قانونية أعلى وإلا كانت غير مشروعة، وفي حالة التعارض فإنه يتم تغليب حكم القاعدة القانونية الأعلى أي الدستور أولاً، ثم التشريع ثانياً، ثم اللوائح التنفيذية ثالثاً، فالقرارات الإدارية رابعاً.. وهى أدنى هرم في تدرج القواعد.
ولكن ماذا لو سُن قانون فيه نصوص مخالفة للدستور وهل يحق للمحاكم التعرض لدستورية القوانين عن طريق الدفع بالامتناع عن تطبيق القانون المخالف؟. لقد لجأت الدول في دساتيرها إلى إيجاد ما يسمى بالمحكمة الدستورية، وهي المحكمة العليا في السلطة القضائية وتختص بحل النزاعات حول دستورية القوانين والتشريعات والأحكام القضائية وتكتسب قراراتها الدرجة القطعية مباشرة وهي غير قابلة للنقض.
وقد نصت المادة 50 من الدستور على أن «سيادة القانون أساس الحكم في الدولة»، أما المادة الحادية والخمسون فتنص في الفقرة 3 على أن: «حق التقاضي وسلوك سبل الطعن والمراجعة والدفاع أمام القضاء مصون بالقانون، وتكفل الدولة المساعدة القضائية لغير القادرين وفقاً للقانون».
والمقصود من سيادة القانون هو خضوع جميع أنشطة هذه الدولة للقانون، أي أن تلتزم جميع سلطات الدولة سواء كانت تشريعية أو تنفيذية أو قضائية به، والعمل على حماية حقوق وحريات المواطنين التي كفلها الدستور من تعسف الحكام واستبدادهم.
سؤال إشكالي
وللإجابة على السؤال الإشكالي الثاني، وهو: هل يحق للمحاكم التعرض لدستورية القوانين عن طريق الدفع بالامتناع عن تطبيق القانون المخالف؟.. نبين أنه لا يوجد نص قانوني يسمح للمحاكم العادية التعرض لدستورية القوانين لأن الدستور حصر هذا الحق بالمحكمة الدستورية العليا، ولكن قرار محكمة النقض السورية رقم 536 تاريخ 19/4/1984 بيًّنَ أنه «ليس للقضاء التصدي لدستورية القوانين عن طريق الدعوى نظراً الى انتفاء النص إلا انه مخول صلاحية التصدي لذلك عن طريق الدفع والاستبعاد بالامتناع عن تطبيق القانون المخالف».
إن هذا المبدأ الهام ما هو إلا تطبيق عملي لمبدأ الفصل بين السلطات وهو ما أكده أيضاً قرار محكمة النقض رقم 168 ق/211 تاريخ 18/5/2003، إن القضاء العادل المستقل هو الضمانة الأساسية لمبدأ علو وسمو الدستور وإقامة العدل بين الناس، خصوصاً عندما يواجه عند الفصل في الدعاوى المرفوعة أمامه قانوناً مخالفاً للدستور، وعلى سبيل المثال فإن ما ورد في نص المادة 65 الفقرة أ من قانون العمل رقم 17 / 2010 والتي تنص على: «إذا لم يثبت صاحب العمل ارتكاب العامل إحدى المخالفات المنصوص عليها في المادة السابقة، فإن إنهاءه لعقد العمل يعد بمثابة التسريح غير المبرر وفي هذه الحالة يستحق العامل تعويضاً ...الخ»، هذه المادة سمحت لرب العمل بتسريح العامل تسريحاً تعسفياً وهو مخالف للمادة 13 الفقرة 1 و 3 و للمادة 40 الفقرة 1 من الدستور، ومخالف أيضاً للقاعدة الفقهية الشهيرة التي تقول: «ما لا يجوز أخذه لا يجوز إعطاؤه»، ومعنى هذا الكلام أن حق العمل حق مصان بقوة الدستور لا يجوز أخذه من العامل وإعطاؤه لرب العمل، وبالتالي يحق للقاضي في هذه الحالة استبعاد ووقف تنفيذ قانون العمل رقم 17.
المثال الثاني القانون رقم /20/ للعام /2012/ ومواده رقم 1 و2 و3 فقد جاء النص «أو تقديم أي عون مادي أو معنوي لهم بأي شكل من الأشكال» في آخر كل مادة، جاء عاماً ومطلقاً وملتبساً وغير واضح وبموجبه قد يصبح كل مواطن سوري إرهابياً حتى يثبت العكس، وسيعاقب بالسجن والتسريح من الخدمة «للعاملين لدى الدولة»، أو يحرم من معاشه التقاعدي «للمتقاعدين»، ومن أية حقوق تترتب له على مؤسسة التأمينات الاجتماعية أو رب العمل الذي يعمل عنده «للعاملين في القطاع الخاص»، حتى يمكن أن يصيب من قدم دعماً دون علمه بأنه يساهم بدعم عمل إرهابي وستصبح المادة 3 من هذا القانون سنداً وستاراً ومحرضاً لرب العمل عندما يريد التخلص من عدد من عماله دون أن يعطيهم حقوقهم كما ينص القانون عليها، وقد تنزل هذه العقوبات بحق أحد قد يقدم لشحاد أو فقير يشاهده مصادفة في الشارع أقل قطعة نقدية وهي خمس ليرات وهو لا يدري أن هذا الشحاد أو الفقير إرهابي، وينطبق عليه نص تعريف الإرهاب كما جاء في القانون، وتشكل هذه العبارة مخالفة صريحة لروح الدستور التي تهتم بدستورية القوانين وعدالتها، وسيصيب هذا القانون أيضاً كل من تظاهر ويتظاهر سلمياً ضد الفساد ومن أجل تحسين شروط حياته البائسة التي يعيش بها، وهو لا يقصد من تظاهره إيجاد حالة من الذعر بين الناس أو الإخلال بالأمن العام أو الإضرار بالبنى التحتية أو الأساسية للدولة، فما بالك إذا كان العون معنوياً لا يفيد أو يضر الإرهاب وحتى لو توفرت نية الدعم معنوياً، فلا يعاقب المرء على نيته بل على فعله وسلوكه، وإلا فإن نسبة كبيرة من الشعب السوري ممن يتظاهرون سلمياً سيعتبرون إرهابيين وستنزل بهم العقوبات المنصوص عليها بموجب هذا القانون الذي يمكن اعتباره مخالفاً لروح الدستور وفيه ظلم بادٍ للعيان لابد من إعادة النظر به وإلا سيصبح سبباً لنمو الإرهاب وانتشاره ومفرخاً له حين تضيق بالناس سبل العيش الكريم.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا وبقوة هو: لماذا تقر قوانين فيها ظلم واضح وهضم فاضح لحقوق الشعب السوري علماً أن مجلس الشعب كهيئة تشريعية ملزم بدراسة أثر القانون ومفاعيله على الشعب حين التطبيق؟ وهو ما يدعو لإجراء دراسات جدية من جميع الجوانب القانونية والاقتصادية والاجتماعية بل وحتى الإنسانية التي قد تترتب عند تنفيذ القانون، ثم ألا يحق للشعب أن يحاسب %51 من أعضاء المجلس وهم من فئة العمال والفلاحين على موافقتهم على قانون العمل رقم17 الذي سمح بالتسريح التعسفي للعمال وهم الملزمون بالدفاع عن حقوقهم؟ ألا يشكل هذا استهتاراً بحقوق هؤلاء الذين يشكلون أغلبية الشعب، ثم ألا يحق للشعب أن يسأل ويحاسب من وافق على إصدار قانون فيه نص ملتبس وقد يؤدي تطبيقه إلى ظلم حالك بجزء من جماهير الشعب - وإساءة استعمال السلطة من الأمور المتعارف عليه من بعض الفاسدين- دون أن يقوموا بواجبهم في دراسة السلبيات التي قد تلازم القانون عند تطبيقه، إنها أسئلة مشروعة وجدية ويجب على المشرعين أن يجيبوا عليها وعلى القضاء أن يتصدى لها إن لم يفعلوا.
إن عددا من القوانين السورية تتضمن في متونها ما يخالف الدستور الأمر الذي يحرض القضاء على التقيد والتمسك باجتهاد محكمة النقض المذكور والحكم عن طريق الدفع والاستبعاد بالامتناع عن تطبيق القانون المخالف، فالدستور أبوالقوانين، أما القوانين والأنظمة واللوائح فإنها تأتي في الدرجة الثانية ويمكن التغاضي عن تطبيقها ولو كانت سارية المفعول ومعمولاً بها، وهذا هو دور القضاء الذي يجب أن يكون عادلاً عند تطبيق القوانين حتى لو لم تعترض المحكمة الدستورية العليا على دستورية هذا القانون أو ذاك.
*تم الاستناد كمرجع إلى مجلة «المحامون» العددين 1+2 لعام 2006 المحامي الأستاذ محمد أحمد العبيدي.