«تسويات» ريف دمشق... خطوة على الطريق الصحيح
انطلقت العديد من التسويات في ريف دمشق، بعضها لاقى نجاحاً مقبولاً، كتسوية برزة، وبعضها فَشِلَ، كما في مخيّم اليرموك، بينما تسويات أخرى لا تزال في خطواتها الأولى، وتصطدم بالكثير من المعيقات والتفاصيل المعقّدة. تمكّنت التسويات الناجحة، أو القريبة من النجاح، من إعادة مئات النازحين إلى بيوتهم، وتأهيل البنى التحتيّة، ونزع فتيل الصراع على العديد من الجبهات؛ الأمر الذي لم تنجزه الانتصارات العسكرية البحتة، خلال الفترة الماضية، أو ما سُمّي عمليات «التطهير».
منذ حوالي شهر، أقلع قطار التسويات في ريف دمشق ولم يتوقف، أولى محطاته كانت في برزة، شمال شرقي دمشق، البلدة التي شهدت التسوية- النموذج، والتي تردّد صداها في المناطق المجاورة في البداية، القابون وحرستا وجوبر، ثمّ في عمق الغوطة الشرقيّة الملتهب، حيث يجري التحضير لتسويات مماثلة في كفربطنا وجسرين وسقبا. وتعثّر مسار التسويات غير مرّة في الريف الجنوبي، في ببيلا وبيت سحم، بسبب المتشددين من طرف النظام، وتعنت المسلحين المتشددين في تلك المناطق من جهة أخرى، والذين يسعون من خلال تعطيلهم لمسار المصالحات إلى اتخاذ المدنيين كدروع بشرية..
أما الحديث عن «إعادة الأمن والأمان» أو «التطهير»، فيفنّده عدم عودة المدنيين إلى المناطق والبلدات التي هُزم فيها المسلّحون، مثل سبينة وحجيرة والبويضة والذيابية والحسينية، في جنوبي دمشق، ودير السلمان والعتيبة وجربا، في العمق الجنوبي للغوطة الشرقية، فعلى كل مدخل من المداخل المحيطة بكل تلك البلدات لا يزال قنّاصة المسلّحين يوظّفون كل رصاصة لديهم لنفي المزاعم التي تشير إلى سيطرة الجيش عليها..
برزة النموذج
ليست التسوية في برزة هي الأولى في ريف دمشق، فقد سبقتها «مصالحة قدسيّا» بحوالي ستّة أسابيع، ويسجّل لهذه الأخيرة أنّها حطّمت الكثير من الحواجز والمعيقات في طريق التسويات، فمهدت الطريق أمام التسويات اللاحقة، يقول أبو نبراس، من قدسيا، لـ«قاسيون»: «عندما أنجزت المصالحة، كان من الصعب طرح فكرة التعاون بين المسلّحين والجيش.
ولكن أي شخص مطّلع على الوضع في قدسيا يعرف أن ذلك كان ممكناً، ومنذ وقتٍ طويل، فمعظم المسلّحين من أبناء البلد، بالإضافة إلى أنّ قدسيا تضم أكثر من 200 ألف مواطن لا يمكن أن يُحاصروا بجريرة هذا الطرف أو ذاك». أما في برزة، فقد جرى اتفاق بين وجهاء البلدة والجيش، قبل نحو شهر، يجري بموجبه تسليم الأسلحة الثقيلة فقط التي لدى المسلّحين إلى الجيش، وتعيين المسلّحين في المنطقة كعناصر من «جيش الدفاع الوطني»، وإطلاق سراح المعتقلين لدى الأجهزة الأمنيّة، وإعادة تأهيل البنى التحتية، وتولّي الشرطة مهام إدارة المنطقة وحفظ أمنها.
وجرى تطبيق معظم هذه البنود، وشهد الأسبوع الماضي عودة المئات من أبنائها، إلّا أنّ عوائقَ جديّة لا تزال قائمة، يقول م. علي، أحد العائدين إلى برزة، لـ«قاسيون»: «بالرغم من أنّ التسوية تواصل تقدّمها، لا تزال المخاوف تسري بين الأهالي من انفراط عقد التسوية، نتيجة الإبقاء على بعض القضايا عالقة بلا حلّ»، ويشبّه علي قضية بعض المعتقلين لدى الأجهزة بالقنبلة الموقوتة التي تهدد نجاح التسوية إذا لم يجرِ إبطال مفعولها..
القابون على خط التسويات
ما إن شاع خبر نجاح التسوية في برزة، حتى بادر وجهاء العديد من المناطق إلى محاولة تطبيق النموذج في بلداتهم، البداية في القابون، حيث طلب وجهاؤه بتكرار تجربة برزة في حيّهم، إلا أنّ العوائق الناجمة عن خصوصية الحي بدأت بالظهور، تقول إحدى المصادر المطلعة على تفاصيل الاتصال المذكور لـ «قاسيون»: «الإشكال الأساسي تمثّل في كون عمق حي القابون مفتوحاً على مناطق وبلدات أخرى، مثل حرستا، فكان من الصعب تحديد البقعة الجغرافية من الحي التي ستخضع للتسوية»، إلا أنّ الرد على هذه المخاوف جاء من حرستا ذاتها، التي أعلن بعض زعماء المسلّحين فيها نيتهم عقد تسوية مع الجيش. تلا حرستا في الانضمام إلى مسار التسويات حي جوبر، الذي يتمتع بخصوصيّة أن معظم مسلّحيه من أبناء الغوطة الشرقية. وواصلت موجة التسويات اتساعها حتى بلغت عمق الغوطة الشرقية، حيث طالب وجهاء كفربطنا وجسرين وسقبا بتسوية مع الجيش.
حتى الآن لم تفضِ المفاوضات والاتصالات في المناطق المذكورة إلى أي خطوة على الأرض، لذا لا يزال من المبكر تحديد النقطة التي وصلت إليها تلك التسويات، لكن ما يمكن تلمّسه، من خلال سير العملية، أن الاتجاه العام لدى أهالي ومسلّحي تلك المناطق يسير نحو التسويات، ونبذ العنف. وأنّ هؤلاء كانوا بانتظار نموذج حقيقي من التسويات، أو شبه حقيقي، كنموذج برزة، كي يقدموا على تسوياتهم الخاصة.
الريف الجنوبي.. واقع مختلف
شهدت بلدتا ببيلا وبيت سحم، في الريف الجنوبي، العديد من الخطوات للوصول إلى التسوية، إلا أنّها فشلت بمعظمها، أما ما نجح منها فقد صُدّر على شكل «استسلام» الجماعات المسلّحة، وتسليم أسلحتها للجيش السوري، يروي أحد المواطنين حال التسويات في تلك المناطق لـ«قاسيون»: «جبهة النصرة وبعض الفاسدين في الأجهزة الأمنيّة هم أكثر من يعمل على إفشال التسويات في الريف الجنوبي، فالأولى لا تزال تتلقّى إمداداتها، في ظل وجود الثانية، التي هي بدورها مستفيدة من بيع كيلو الرز بـ 12000 ليرة سورية للجائعين في تلك البلدات». ويشرح المواطن كيف يجري إفشال تلك التسويات: «إما عن طريق افتعال الاشتباكات قبل انجاز إحدى خطوات التسوية، كإدخال معونات غذائية إلى إحدى تلك البلدات مثلاً، أو نشر الإشاعات بين الأهالي وإطلاق تحذيرات كاذبة من إحدى خطوات المصالحة وتصويرها على أنّها مكيدة من أحد الأطراف للآخر». وهذا ما يودي بالجهود الخيرة في الطرفين التي تعمل لإنجاح هذه التسويات.
«إلا أن الأمل لا يزال قائما بنجاح تلك التسويات»، يقول أبو أيهم، أحد رعاة التسوية، لـ«قاسيون»، فيوم الخميس الماضي أعلن مجدّداً عن نجاح التسوية، «وصحيحٌ أن الأيام خير من يحكم على صدقيّة الطرفين، إلا أن النية متوفرة من حيث المبدأ لديهما، لكنّهما يكابران حتّى يكسب كلٌ منهما عدداً أكبر من النقاط».
«ضرائب» باهظة.. تفرضها قوى الفساد على الدولة
كان لفشل العديد من تجارب المصالحة، وبالأخص ذلك الذي نجم عن تعنّت قوى الفساد، نتائج كارثيّة على الدولة والحياة العامة، ففي داريا تعثّر مسار التفاوض، «لأن السرقات لا تزال في أوجها» يقول أكرم خولاني، من أبناء داريا لـ«قاسيون»، فـ«مستودعات المدينة لا تزال تحتوى على عشرات الألوف من قطع الموبيليا، التي يراها كل طرف كغنيمة وازنة يستوجب الاستيلاء عليها إفشال أي مصالحة»، وكانت نتيجة هذا الأمر أن قام مسلّحو داريا، مع مسلّحي القدم والعسالي، بسلسلة هجمات للسيطرة على طريق درعا الدولي، وذلك لكسر الحصار المفروض عليهم من الجيش العربي السوري، والنتيجة كانت أن توقّف هذا الطريق الاستراتيجي عن العمل، وتعطلت الحياة العامة، فضلاً عن توقف حركة البضائع، الترانزيت، على هذا الطريق.
مأساة المناطق «المطهّرة»
لا حياة في بلدات الحسينية والذيابية والبويضة وحجيرة وسبينة، في ريف دمشق الجنوبي، فبعد «تطهير» كل من هذه البلدات، انسحب المسلّحون إلى محيطها، وفرضوا عليها حصاراً معاكساً، الأمر الذي حال دون إعادة المدنيين إليها، أو إمكانية تأهيل البنى التحتيّة، و«لم يتغيّر مشهد الحرب في تلك البلدات»، يقول م. قصيباتي، ناشط في الإغاثة، لـ«قاسيون»، ويضيف «لدى محاولة فرق الهلال الأحمر إدخال الإغاثة إلى البلدة، تعرضت سيارات الهلال إلى القنص. وليلاً سُرقت الخيم والشوادر التي جرى جلبها إلى تلك البلدات. فلم تعد الكرّة، لأن الإغاثة في تلك المناطق الخطرة لم تعد تجدي أي نفع».
إن هذه التسويات تشكل خطوة في الإتجاه الصحيح، ومن واجب كل القوى الوطنية في النظام والمعارضة دعمها وترسيخها.