(واحة الليبرالية).. لن تستمر
لم تتسع رقعة المعركة في عام 2016، ولم تتسع دائرة العقوبات والحصار الدولي على الشعب السوري، وربما بناء عليه فإن الإحصائيات الدولية كانت قد قدرت بأن هذا العام سيشهد انحساراً نسبياً في تراجع الناتج، وسيكون قرابة -6% مقابل وصوله إلى أكثر من -30% في عام 2013 على سبيل المثال.
ولكن مقدرة السوريين على التكيف مع الظرف الاقتصادي للأزمة، تواجهها جملة من السياسات الاقتصادية، وهي وإن وضعها ونفذها أصحاب القرار في جهاز الدولة، فإن هذا لا يعني أنها تعكس المصلحة الوطنية العامة بالضرورة، بل هي بالضرورة تعبير عن مصالح (الأقوى اجتماعياً)، أي، أولئك القلة القادرون على الاستمرار بجني الأرباح الكبيرة في ظروف الأزمة، لتتحول السياسات الاقتصادية الليبرالية المستمرة في سورية إلى التحدي الأكبر أمام أي منتج وصاحب أجر، والمعرقل الأكبر لأية عملية تعافٍ اقتصادي، و(الواحة) التي ينعم بها (أمراء الحرب وجامعو الغنائم).
من الضروري في نهاية عام 2016، وبداية العام القادم أن نعيد تلخيص أهم مفاصل الأحداث والنتائج الاقتصادية، لنستمر في توثيق تجربة السوريين المرة مع السياسات الليبرالية، لأن هذا الأمر هو أول عتبات فهم الضرورة الوطنية لتجاوز الليبرالية الاقتصادية نهائياً في المرحلة القادمة.
المرحلة التي تنحسر فيها المعارك والعنف نسبياً، وتبدأ الحلول السياسية، عندما سيتحول بالضرورة عامة السوريون إلى الوزن الاجتماعي والسياسي الأقوى، وتصبح مصلحتهم عنصراً هاماً يدخل في صراع تسيير قرارات وحكومات جهاز الدولة، وسيعكر هؤلاء صفو السيطرة المطلقة التي تنعم بها قوى الربح الكبير.
إن مثل هذه السياسات لن تستطيع الاستمرار، لأن أصحاب المصلحة بها سيفقدون أهم دعائمهم، وهي: حالة العنف المتوسع، وتراجع دور السوريين السياسي. هذا الدور الذي بناء عليه سترتسم خريطة سياسات وبرامج لإعادة بناء سورية جديدة.
الليرة والأجور فقدت 60% من قيمتها خلال عام
إذا أردنا أن نجري تقديراً لتراجع قيمة الليرة، فإننا نستطيع استخدام مقياس تراجع القدرة الشرائية لها، والتي نقيسها عبر مقياس تكاليف المعيشة: أي، المبلغ المطلوب لتأمين الحاجات الأساسية، لأسرة من خمسة أشخاص، وهذا المبلغ وفق تقديرات قاسيون قد انتقل من: 178 ألف ليرة في بداية 2016 وصولاً إلى 290 ألف ليرة في نهاية الشهر التاسع منه، وذلك بالنسبة لاستهلاك أسرة في دمشق، أي، ازدادت تكاليف المعيشة بنسبة: 63% تقريباً، وخسرت الليرة المقدار ذاته من قيمتها خلال تسعة أشهر من عام واحد!
بينما الأجور التي خسرت من قيمتها مع خسارة الليرة، لم تجد ما يسندها في مواجهة ارتفاع الأسعار، بل على العكس أتت شرارات رفع الأسعار من الرفع الحكومي لأسعار حوامل الطاقة، الكهرباء والمحروقات، والذي ترافق مع تعويض بمقدار 7500 ليرة فقط. رفع وسطي الأجور من قرابة 26500 إلى 34 ألف ليرة، وبنسبة ارتفاع 28% فقط.
ولكن ما نفع أية زيادة من هذا الحجم، طالما أن الزيادة المطلوبة لوسطي الأجور، هي قرابة 750% لتغطي تكاليف المعيشة، وتصل إلى 290 ألف ليرة؟!
السياسات الاقتصادية في هذا العام، فشلت في مواجهة ارتفاع الأسعار، وإيقاف خسارة الليرة والأجور لقيمتهما، وساهمت مساهمة فعالة في هذا الارتفاع، عبر رفعها لأسعار حوامل الطاقة وغيرها من الإجراءات.
لليرة والأسعار- الأجر والأرباح
لقد كان هذا العام عاماً صعباً على الليرة السورية، وعلى قيمتها الفعلية حيث استمر سيل خسارة الليرة لقدرتها الشرائية، واستمرت السياسات بسحب ما تبقى من كوابح هذا التراجع عبر مساهمتها الفعالة في رفع الأسعار.
ولا نتحدث هنا عن قياس قيمة الليرة بنسبتها للدولار في سوق صرف العملات، بل بالنسبة لقدرتها على أداء وظيفتها كعملة وطنية، مستقرة القيمة، ومرغوبة اقتصادياً. وظيفتها الكامنة في التعبير عن أسعار السلع والحاجات المتداولة في السوق، فالليرة والأسعار وجهان لعملة واحدة: كلما ارتفعت الأسعار تراجعت قيمة الليرة، والعكس بالعكس.
والليرة وأصحاب الأجور في صف واحد، فكلما تراجعت الليرة، خسرت الأجور قيمتها الحقيقية، وازداد أصحاب الأجور في سورية فقراً. وبالمقابل فإن الأسعار والأرباح في صف واحد، فما ارتفاع الأسعار، إلا انتقال مزيد من الدخل من أصحاب الأجور إلى أصحاب الأرباح، أي، زيادة حصة الربح من الناتج، وتفاقم التوزيع الجائر للثروة في سورية، حيث القلة القليلة من أصحاب الربح الكبير، يحصلون على النسبة الأعظم من الناتج، أي، النسبة الأعظم مما ينتجه السوريون خلال عام. فإن كان أغنى 10% يحصلون على ما يزيد عن 75% من الناتج في عام 2010، فإن النسبة اليوم أعلى بكثير، وأقل من 10% من أغنياء الحرب، يحصلون على أكثر من ثلاثة أرباع الناتج بالتأكيد..
وربما تقدم المفارقة بين دخل واحد من الخمسة الكبار في شركتي الاتصالات سيريتل وMTN بالمقارنة مع الأجر الوسطي للسوريين الدلالة على طريقة توزيع الثروة والدخل في سورية، حيث الربح السنوي الوسطي لأحد هؤلاء من حصته في الاتصالات فقط، يقابل الأجر السنوي لأكثر من 14 ألف عامل سوري.
سعر الصرف الرسمي سبق الجميع..
عندما تزداد الأرباح، تزداد المضاربة والطلب على الدولار وبيع الليرة، لأن أصحاب الربح يسعون لتحويل أرباحهم من ليرة إلى دولار، لتحتفظ بقيمتها، وهذه العملية ترفع سعر الصرف الأسود، فتتراكض السلطة النقدية لبيع مئات ملايين الدولارات للسوق، التي تحصل على طلبها من الدولار، فتستكين مؤقتاً، وتعود لرفعه في موجة مضاربة تالية، لتجد دائماً (احتياطياً) جاهزاً للبيع.
أي طالما الأرباح تتوسع، واستهلاك أصحاب الأجور يتراجع، فإن أصحاب الربح سيبقون في سعي دائم، (لكب الليرة وطلب الدولار)، وما من حل إلا بسياسات تخفض الأرباح وتزيد الأجور، سياسات تزيد الاستثمار والاستهلاك بالليرة، وبالتالي تزيد الطلب عليها، وتقلل الطلب على الدولار!
وفي مواجهة هذه السياسات المطلوبة، فإن السلطات النقدية الليبرالية في سورية، تكتفي بدور لاعب من اللاعبين في السوق، يبيع ويشتري ليرة ودولار!
والملفت في هذا العام، أن أصحاب السياسات الليبرالية، لم ينجحوا حتى في الهدف الصغير الذي وضعوه، وهو منع ارتفاع سعر صرف الدولار. بل قد سبقوا السوق، في رفع سعر الصرف، حيث سعر الصرف الرسمي قد ارتفع بنسبة 67% تقريباً، خلال العام الحالي من سعر 311 ليرة مقابل الدولار في بداية عام 2016، وصولاً إلى سعر 520 ليرة مقابل الدولار حالياً.
وهذا الارتفاع أعلى من ارتفاع السعر في السوق السوداء الذي ارتفع بنسبة: 32% فقط، من 390 ليرة مقابل الدولار في بداية العام، وصولاً إلى 515 ليرة تقريباً في الوقت الحالي.
ونستطيع أن نلخص بالتسلسل التالي أداء السياسات الاقتصادية:
رفعت الأسعار، فقللت قيمة الليرة، وانخفضت الأجور، وزادت الأرباح، فزادت المضاربة، وارتفع سعر الصرف، وزاد ضخ الدولار، وخسرنا مزيداً من احتياطي القطع الأجنبي، وكسبت السوق..
أي كسبت القلة القليلة الرابحة من المضاربة ورفع الأسعار، وخسر عموم السوريين وليرتهم وإنتاجهم.