هل سيبني المال الخليجي سورية؟!
تكثر مشاريع إعادة الإعمار التي ترسم وتحضّر لسورية في مستقبلها القريب، ويقدّر بعض المحللين بأن للمال الخليجي (فرصة هامة) في المرحلة القادمة، ليعتبر بعضهم أن هذا خطر ينبغي تفاديه، وليقول الآخرون بأنها فرصة ينبغي انتهازها والتكيف معها.. وفي هذا وذاك ضعف رؤية لحجم التغيرات الدولية والإقليمية المحيطة، والتي تشكّل لسورية فرصة بالتخلص من عبئ (أموال النفط العربي) التي كان لها تأثيرات سلبية في مراحل مفصلية في تاريخ الاقتصاد السوري..
في السبعينيات، وبعد حرب تشرين، تقاطعت الفورة العالمية في أسعار النفط والفوائض الخليجية، مع المزاج السياسي والاقتصادي السوري، الذي انفتح على دول الخليج بالسياسة والاقتصاد. فتدفق 1,5 مليار دولار سنوياً من (أموال الريع السياسي) في تلك المرحلة، وساهمت في نمو سنوي وسطي 10% في السبعينيات، ولكنها كانت أيضاً بؤرة تشكل قوى الفساد الكبرى البيروقراطية التي كدست من الموارد المتدفقة ومن موارد جهاز الدولة، الذي كان يبني منشآته الكبرى بزخم سريع، ولكن بعشوائية وهدر أيضاً، ودون خطة ممنهجة وذات ديمومة، بدليل أن توقف تدفق هذه الأموال في الثمانينيات، ترافق مع انخفاض معدل النمو إلى 1%، ولم تستطع المنشآت الاقتصادية أن ترفع معدلات النمو بشكل مستقل، إلا عندما ظهرت واردات النفط السوري في أواخر الثمانينيات..
الموجة الثانية ذات التأثير الأعلى، كانت مع المناداة الصريحة والواضحة للمال الخارجي، ليقوم بمهمات التراكم والاستثمار في البلاد، وذلك مع الخطة الخمسية العاشرة، عندما أصبح جذب الاستثمار الخارجي هو (وسيلة النمو والتنمية)، وقدرت استثمارات الخليج في عام 2010 بحوالي 150 مليون دولار، وتدفقت رؤوس الأموال الخليجية بالدرجة الأولى للاستثمار في القطاعات المالية- العقارية- السياحية، وكانت واحدة من أبرز خط سير عملية تدفق المال الخليجي، هو تمتين التحالف بين قوى السوق الكبرى السورية، وأموال النفط، للتأسيس لحالة احتكارية غير مسبوقة في سورية متجلية بالشركات القابضة، أولها شركة سورية – قطرية قابضة برأس مال 200 مليون دولار، تلاها في أعوام 2006-2007 تأسيس شركتي الشام القابضة التي يقدر نشاطها بحوالي %60 من النشاط الاقتصادي السوري، وشركة سورية القابضة التي يقدر نشاطها بحوالي مليار دولار أميركي. وقد ضم هذان التجمعان الماليان حوالي مئة مستثمر، ومجموعات صناعية تجارية، ووجوه مسيطرة في غرف التجارة والصناعة السورية، كما ذكر محمد جمال باروت في كتابه «العقد الأخير في تاريخ سورية جدلية الجمود والإصلاح»
وربما هذا التحالف المتين، يفسر لماذا لم يتم مس الأملاك والاموال الخليجية الموجودة في سورية، طوال الأزمة، رغم حالة النقص الحاد في الموارد العامة!
التجربة السورية تثبت إشكالية أموال الخليج النفطية التي يمكن القول أنها ذات دور (إفسادي)، حيث لعبت الدور الأساسي في انخراط اقتصاديات المنطقة في الليبرالية الاقتصادية الأمريكية خلال العقود الماضية، وفي لبنان يظهر الأثر واضحاً، عندما تبنى المال الخليجي عملية إعادة الإعمار، ونتج النموذج اللبناني القائم على تراكم الموارد في القطاع المصرفي، مقابل دولة فقيرة ومديونة وغير قادرة على إنجاز أبسط مهمات التنمية، وبلد ثلث سكانه فقراء، و 1% منهم يمتلك 70% من ودائع المصارف، كما ذكر الباحث فواز طرابلسي في كتابه (الطبقات الإجتماعية والسُّلْطة السياسية في لبنان).
إلا أننا نستطيع أن نقول اليوم أن هذا أصبح من الماضي، فاقتصاديات الخليج العربي الريعية النفطية تشهد أزمتها الحادة، التي دفعتها إليها الولايات المتحدة الأمريكية في أزمتها الاقتصادية العالمية، ومواجهتها للقوى السياسية الاقتصادية الصاعدة، والحديث عنها عن حرب النفط، التي حولت دول الخليج من الفائض إلى العجز..
حيث أن إيرادات الصادرات النفطية لدول المنطقة تراجعت بنسبة 46% في عام 2015، ويتوقع أن يستمر التراجع في 2016 بنسبة 12%، أي من أكثر من 700 مليار دولار في 2014، إلى 337 مليار دولار في 2016، أي تراجع بنسبة 61% عن الذروة المسجلة في عام 2012.
بينما خسرت السعودية تحديداً نصف معدل نموها بين 2014، و2016 وفق تقديرات الإسكوا، وقد انتقل تأثير هذا سريعاً على قدرات الإنفاق الداخلية لهذه الدول، والسعودية في مقدمتها، التي أصبحت تحتاج لخطط تقشف لتمويل عجز ميزانيتها..
فموازنة السعودية انتقلت من فائض 180 مليار ريال في عام 2013، إلى 326 مليار ريال عجز في عام 2016..
الأزمة الاقتصادية العالمية، وتجلياتها السياسية في منطقتنا، تغير الكثير من خريطة العالم والإقليم السابقة، وتفتح للسوريين فرصة إعادة الإعمار، في الوقت الذي تحتضر فيه الليبرالية الاقتصادية ودعائمها العالمية والإقليمية، وتنفتح للشعوب والقوى الوطنية الجدية فرص تنفيذ السياسات الاقتصادية الضرورية لتأمين النمو العميق والعدالة الواسعة.. فعن أي خليج يتحدثون؟!