عمال كيّ الجوارب أشغال شاقة وتدهور مستمر
هاشم اليعقوبي هاشم اليعقوبي

عمال كيّ الجوارب أشغال شاقة وتدهور مستمر

 

يعتبر كوي الجوارب أحد مراحل الإنتاج في صناعة الجوارب, وتتطلب عمالاً مهنيين من نوع خاص, كونها ذات طابع حرفي من جهة وعملية روتينية شاقة من جهة أخرى, ولا يمكن لأي عامل كان أن يحل مكان (كوى الجوارب) كما في مراحل الإنتاج الأخرى.

الأكثر تعباً والأعلى أجراً

ينقسم العمل في صناعة الجوارب لمراحل عديدة، يبدأ بالمكنات التي تنسج، مروراً بالحبكة أو الشكة ثم الكي، وتنتهي عند مرحلة التغليف (أمبلاج)، وتتفاوت الأجور بين عمال المراحل وتختلف طبيعة العمل وظروفه، ويبقى لعمال الكوي خصوصية محددة، فهم لا يعملون وراء آلة ما، لأنه لطبيعة المهنة يكونون هم الآلة، فقوالب الكوي المزودة بالحرارة والمثبتة على طاولة الكوي تلعب دور بيت النار (التنور) والعامل مثل الفران في حركته الدائمة المتكررة والمنضبطة كرقاص الساعة، ولا يقتصر الأمر على الوقوف ورقص القدمين، بل يتوجب على ساعديه ألا تتوقفا عن تلبيس وتشليح القوالب الحارة (بفردات) الجوارب كي تأخذ الحرارة المطلوبة ليفرزها ويجاوزها ويطويها كأزواج وينظمها كدزينات لتذهب لمرحلة التغليف، ولكل نوع من الجوارب طريقة خاصة لكيها وكذلك لكل صنف أو قياس وتبقى السمة العامة هي الحركة الدائمة للأطراف الأربعة، مع تركيز ذهني عالي للفرز والتنظيم، ويحاسب رب العمل (الكواية) على القطعة أي الدزينة وليس بأجر ثابت، أو نظام ساعات، وعلى مبدأ (الخسكار)، لا ساعات الدوام، ورغم ارتفاع أجر ساعة العمل الواحدة للكوي، إذا ما أخذنا المعدل الوسطي لها عن باقي أجور العمال في أقسام أخرى، يبقى أجراً لا يتناسب مع طبيعة هذا العمل الشاق والمتلف والممل، فمتوسط ساعات العمل عشر ساعات ومتوسط أجر الساعة 160 ليرة حالياً، يذهب قسم كبير منه كثمن غذاء ومسكنات ومراهم، فلا يوجد عامل كوي لا يعاني من مشكلة الدوالي بأنواعها وألام تشنجات الظهر والرقبة فالجهد العضلي والذهني المبذول يتطلب هو الآخر إعادة إنتاج. 
تراجع أجور لا يتوقف
تراجعت أجور عمال كوي الجوارب بفعل عوامل كثيرة خلال الخمسين سنة الأخيرة، ففي مرحلة السبعينيات والثمانينيات ومع توسع صناعة الجوارب والطلب المستمر على اليد العاملة، توافدت بشكل يومي عشرات الأيدي العاملة الراغبة في العمل بمثل هذه الصناعة الرائجة والمتطورة، فهي التي  تضمن الاستمرارية بالعمل والأجر المقبول، وحافظت مهنة الكوي على هيبتها وتميزها، فتعلم الكوي ليس بالأمر السهل حين ذاك، حيث كانت نوعية المنتجات تحتاج لمهارة أعلى وصبر كبير للتعامل مع الحرارة العالية للقوالب، فكان أجر أسبوع واحد يعادل ضعف راتب الموظف، واستمر هذا حتى أواخر الثمانينيات، يوم جاء ما يسمى (الطلب الروسي) حيث استنفرت جميع مفاصل صناعة الجوارب لتقطف ثمار المرحلة، فارتفع الطلب على الأيدي العاملة وخاصة عمال الكوي، فارتفعت اجورهم بشكل كبير، مما جعل الفتية والأطفال يُقبلون على تعلم الكوي لرغبة أهلهم بتعليمها لهم، فهي أصبحت (مزراب دهب)، ووجد أرباب العمل في هذا فرصة لهم كي يزيدوا في ربحهم، ويخفضوا كلف الإنتاج بتقليص أجر معلم الكوي، وطبعا على حساب الجودة أيضا، والتي دفع الجميع ثمنها لاحقاً، حين أوقف الروس سحبهم للبضائع بسبب (تخبيص) أرباب العمل، وهكذا بدأ السوق يعج بمئات عمال الكوي المتدربين، ولم يستمر الأمر طويلاً حيث توقف الطلب الروسي على الجوارب في منتصف التسعينيات، بعد أن أحدث توسعاً كبيراً بالصناعة ودخلت مكنات حديثة (الكمبيوتر) بشكل كبير إلى السوق، وازدادت أعداد العمالة المتدربة التي تنافست على فرص العمل المتراجعة، فانعكست الآية تماماً، وأصبح العرض يفوق الطلب على عمال الكوي، فهبطت الأجور بشكل كبير لصالح أرباب العمل. 
سياسات حكومية تأكل الأجور  
ما أن بدأت السياسات الاقتصادية الليبرالية (السوق الحر) التي أقرتها الحكومة، حتى بدأت البضائع الغربية، ومنها الجوارب بالدخول إلى السوق المحلية، من كل حدب وصوب، وخاصة الجوارب الصينية، دون أي اعتبار لمصلحة صناعة وطنية تصدر منتجها، وتحوي عشرات آلاف العمال، فنافست وزاحمت الجوارب المنتجة سورياً، فتعرض السوق لهزة كبيرة، وتراجع الإنتاج، وتعطل العمال، فتعامل أرباب العمل بمنطقهم المعهود فخفضوا تكاليف إنتاجهم كي ينافسوا المنتج الصيني ويبعدونه عن السوق السورية، ونجحوا في ذلك، لكن على حساب عمالهم فخفضوا الأجور وكثفوا الإنتاج، ومنهم عمال الكوي الذين فقدوا الميزات السابقة، وأصبحت أجورهم لا تتناسب مع طبيعة عملهم الشاقة، ولا تصمد أمام تحرير الأسعار ورفع الدعم الحكومي عن الأساسيات، فشهدوا تدهوراً مستمراً لأجورهم بشكل تدريجي حتى تفجر الأزمة، وتفاقم الكارثة الإنسانية والمعيشية، التي جعلت من متوسط أجرهم الأسبوعي 4000 الذي يعادل حسب سعر صرف الدولار(50) قبل الأزمة 80 دولارا لا يتعدى 9000 حالياً أي 27 دولارا وفق سعر الصرف الحالي(325) ليتقاسم الفرق كلاً من الحكومة الثابتة على نهج إفقار الطبقة العاملة، ورب العمل الذي لا يوفر قرشاً يستطيع سلبه من عامله المتمسك بلقمة عيشه الشريفة والكريمة.
إن الظلم الواقع على عمال كوي الجوارب ليس خاصاً بهم، ولكنه أقسى نظراً لطبيعة عملهم الشاقة والمسببة لمشاكل صحية مزمنة، ولا يمكن رفع مظلوميتهم دون رفعها عن الطبقة العاملة كافة التي تنهب من قبل المحتكرين بظل سياسات حكومية تحتاج لإسقاطها نهائيا وبسرعة.