بدلات الإيجار.. أحد أوجه استغلال معاناة النازحين
المؤسسات الرسمية، وغيرها، (المحلية والدولية والأممية)، تتحدث عن النزوح والنازحين كأرقام؛ (بلغ عدد النازحين 7 مليون نازح في الداخل السوري)، ناسين ومغيبين، أن لكل منهم معاناته ومآسيه، ولعل أهمها؛ أين أقام هؤلاء؟ وكيف؟
من المعلوم؛ أن هؤلاء لجأوا الى الأماكن الأكثر أمناً في الداخل، كما لم تقم الحكومة بتأمين أماكن الإيواء لهم!، (مع بعض الاستثناءات، ونقص الكثير من الخدمات)، بمبررات ومسوغات عديدة، أهمها (العدد الكبير، ونقص الإمكانات)، الأمر الذي اضطر هؤلاء للاستئجار.
زيادة الطلب رفعت الأسعار
هذا العدد الكبير، والحاجة الماسة للسكن؛ شكل زيادة كبيرة، غير مسبوقة، على طلبات الإيجار، في الأماكن الآمنة كافة (دمشق وريفها الآمن – المناطق الآمنة بحلب – وفي طرطوس واللاذقية والسويداء – بل وبعض الأماكن البعيدة في الأرياف الآمنة، وغيرها)، مما أدى الى ارتفاع أسعار بدلات الإيجار، (نتيجة الزيادة في الطلب، واستمرار الارتفاع بالأسعار عموماً، بسبب تدن القيمة الشرائية لليرة السورية، والمضاربة بسعر الدولار)، واستغلال حاجة هؤلاء النازحين.
الأرقام .. «تحلق»
في ريف دمشق؛ بلغ بدل الإيجار لمنزل صغير (غير مفروش)، بين 25 – 30 ألف ليرة سورية، وهو عبارة عن غرفة وصالون ومنتفعات، وقد تقطن به أسرتين مع أبنائهما، يتقاسموا عبء البدل الشهري مناصفة.
وبحال كانت مساحة البيت أصغر من ذلك، (غرفة ومنافع دون صالون)، فقد يصل بدل الإيجار الشهري بين 20 – 25 ألف ليرة سورية، وهو بالكاد يتسع لأسرة محدودة العدد.
والحال كذلك، البيت الأكبر مساحة، يزداد بدل إيجاره الشهري، ليصل بعضها الى 40 ألف ليرة سورية، ولكن قد يزداد بالمقابل عدد الشاغلين إلى ثلاث أسر، وأكثر أحياناً، مع ما يترتب عليه، من اقتسام لغرف المنزل، بين الذكور والإناث، الكبار والأطفال، حسب درجة القرابة بين الشاغلين، وإمكانية التعايش.
مع الأخذ بعين الاعتبار، أن بعض أصحاب الشقق، واستغلالاً لحاجة الإيواء، قاموا بتأجير بعض المنازل، بالغرفة والمنافع مشتركة، وببدل إيجار يصل الى 15 ألف ليرة سورية للغرفة، ما يعني زيادة في الضغط المعاشي اليومي لهؤلاء، الغرباء تحت السقف الواحد.
أما في مدينة دمشق؛ فحدث بلا حرج، فقد يصل بدل الإيجار الشهري لمنزل متواضع الى 60 و 70 ألف ليرة سورية، في الأماكن العادية، وفي المناطق الشعبية، قد يصل لحدود 40 ألف ليرة سورية، أما الأماكن «الراقية»، فقد يصل ذاك البدل الى 150 ألف ل.س وما فوق، (طبعاً تلك المنازل يشغلها ميسورو الحال، من كبار التجار والصناعيين، وأصحاب رؤوس الأموال، وغيرهم).
«العظم» .. دخل حيز الاستثمار
في الريف القريب من دمشق، (الدويلعة – جرمانا – الجديدة – صحنايا وأشرفيتها)؛ هناك الكثير من الشقق والمنازل، التي لا زالت على العظم (دون إكساء)، وقد تم تأجيرها بمبالغ خيالية، تصل إلى 20 ألف ليرة سورية شهرياً، ومشاهد النوافذ المغلقة بالنايلون، ومداخل الأبواب المغلقة بالشوادر، باتت مألوفة بهذه المناطق، علماً أن الكثير من هذه الشقق والمنازل، غير صالح للسكن، لعدم توفر شبكات الصرف الصحي، والماء والكهرباء، بل والطرق المعبدة الواصلة إليها، (حيث أغلبها ترابية، تصبح طينية شتاءً)، مما يعني المزيد من المعاناة، التي يعيشها شاغلو تلك الشقق، بدءاً من تأمين المياه، (نفقة إضافية كبيرة)، مروراً بمشاكل الاستجرار غير المشروع للكهرباء، والأعطال المتكررة المترتبة على ذلك، وليس انتهاءً بالبرد شتاءً، وعدم التمكن من تأمين مصادر التدفئة، (المازوت)، إلا بشق الأنفس، وبالسعر المفروض من السوق السوداء.
حتى أن بعض الأماكن، المنشأة والمهيأة، كمحال تجارية، في تلك المناطق، تم استثمارها على المستوى السكني، نتيجة زيادة الحاجة للإيواء، وبسبب ارتفاع أسعار البدلات.
فرصة ذهبية ... الاستثمار بالعقارات
مع ازدياد معدلات الطلب على المساكن الشاغرة، وارتفاع أسعار بدلات الإيجار الشهري؛ توجه جزء من الاستثمارات إلى شراء العقارات، أو الإنشاءات العقارية المعدة للسكن، (الكثير منه تم مخالفاً، استغلالاً آخر على مستوى الأزمة، من قبل البعض)، مما أدى الى ارتفاع قيمة العقارات أيضاً، حيث تضاعفت بشكل غير مسبوق، وخاصة في بعض الأماكن (الريف الآمن في دمشق مثلاً)، وذلك بغية الاستحصال على العائدات المرتفعة، لقاء بدلات الإيجار الشهرية، مع انعكاس ذلك على مستوى المضاربة بأسعار العقارات، والمزيد من التشوه، بهذا النشاط الاستثماري، (المنزل الذي كانت قيمته 1 مليون ليرة أصبحت قيمته 3 مليون ليرة)، بسبب المضاربة، بالإضافة إلى تدنِ القيمة الشرائية لليرة، وهكذا.
التحكم بالمستأجر «النازح»
أمام هذا الواقع؛ من عدم تناسب العرض والطلب، بات المؤجر، متحكماً ومستغلاً لحاجة المستأجر «النازح»، فهو يطالب برفع قيمة بدل الإيجار الشهري، عند كل تجديد للعقد، بحدود 25%، وإلا فإن المستأجر يصبح عرضة للطرد من «الشقة»، بموجب سلطة القانون، حسب العقد، ليجد نفسه مضطراً للقبول بدفع الزيادة المطلوبة، أو البحث مجدداً عن مكان ومأوى جديد، مع مايعنيه ذلك من تكبده دفع بدل الوساطة العقارية مجدداً، إضافة إلى رسوم العقد، ( قد تصل كلفتهما مجتمعة إلى 10000 ل.س وأكثر، حسب قيمة البدل الشهري)، والأهم مراجعة الجهات الأمنية، من أجل الحصول على الموافقة، عند كل تعاقد (أو عند تجديد العقد)، حسب التوجيهات الصادرة بهذا الشأن، مع احتمال تعرض البعض للمضايقات خلالها، في حال وجود أحد من أفراد الأسرة مطلوباً، ناهيك عن حلقة الروتين الورقي والمستندي المطلوب، اعتباراً من شهادة التعريف لدى المختار، إلى مراجعة مخفر شرطة المنطقة، وتصديق البلدية المعنية للعقد، مع ما يعنيه ذلك كله من هدر للوقت يصل إلى أسبوع بالحد الأنى، إضافة الى النفقات المترتبة على ذلك، (المشروعة منها، وغير المشروعة).
نازح ويعيد
ونتيجة للأوضاع السائدة، فإن الكثير من المواطنين، تعرض للنزوح لأكثر من مرة، مضطراً نتيجة لما سبق، أن يرتهن لمتطلبات المالكين، وأصحاب مكاتب الوساطة العقارية، إضافة إلى تكبده قيمة المقتنيات، التي أمّنها في مكان نزوحه الأول، ليتركها خلفه، كما ترك خلفه مقتنيات منزله الأساس، مما يعني زيادة في المعاناة التي تعرض لها هؤلاء، والاستنزاف الذي تعرضوا له، نفسياً واقتصادياً، ناهيك عن المعاناة المعيشية والاجتماعية، لأفراد أسرته، وخاصة الأطفال، ومن هم بسن المدرسة، والحاجة للتعليم، إضافة للحاجات الأخرى الضرورية، التي حرم بعضهم منها، نتيجة عدم الاستقرار، وضيق ذات اليد.
زيادة إفقار .. زيادة غنى
هذا الاستغلال الكبير لأزمة النازحين، والارتفاع المطرد لبدلات الإيجار، والاستثمار والمضاربة بالاستثمار العقاري، مع ضعف القدرة الشرائية لليرة وتدنيها تباعاً، والجشع والطمع، عبر استغلال الأزمة العامة، التي يمر بها الوطن؛ جعل من مالكي العقارات والمضاربين بها، وأصحاب رؤوس الأموال، وتجار الأزمة، أكثر غنى، وجعل البقية الباقية من عامة الناس، أكثر فقراً، «فكيف إذاً بواقع وأحوال النازحين»، حيث باتت الهوة أكثر اتساعاً، بين شرائح المجتمع، على المستوى الاقتصادي، والمعيشي اليومي.
انعكاسات عامة
إضافة لكل ماسبق، من انعكاسات سلبية، ظهرت مشاكل نقص الخدمات بشكل عام، والضغط المتزايد على البنى التحتية، (بدءاً من الماء والكهرباء، مروراً بشبكات الصرف الصحي، والازدحام المروري، وأزمة النقل والمواصلات، وليس آخراً، المدارس والطبابة، وغيرها)، وذلك في المناطق كلها التي استقطبت، وتوزعت عليها أعداد النازحين الـ 7 مليون، «حسب التقديرات»، ما يعني استنزافاً للبنى التحتية، وللموارد المتاحة، وزيادة في المعاناة العامة، بنهاية المطاف.
الحكومة... حضور «خجول»
حضور الحكومة كان خجولاً، على مستوى أزمة النزوح والنازحين، فقد تركتهم على مبدأ «دبر راسك»، علماً أن 7 مليون نازح، رغم كبر العدد، ولكنه كان تراكمياً خلال خمسة أعوام، من الأزمة المتواصلة، ولو أنها قامت بجهود جدية بهذا الصدد، تباعاً، لما وصلت أزمة النازحين، لما هي عليه الآن، اعتباراً من عدم جديتها بتوفير أماكن الإيواء المناسبة، مروراً بالاعتماد على المنظمات الأهلية (جمعيات وغيرها)، ومنظمات المجتمع المدني، «المحلي والدولي»، من أجل تأمين بعض الخدمات والمساعدات للنازحين، وانتهاءً بتركهم، كغيرهم من المواطنين، عرضة للاستغلال، والمزيد منه ، من قبل من لا يرحم، حتى على المستوى الإغاثي، بل والإعلامي أيضاً، مع الأسف.
علماً أن إجراءً بسيطاً، (على مستوى إمكانات الحكومة)، كإعادة تهيئة البنى التحتية والخدمية، في بعض المناطق التي تم استعادة السيطرة عليها من قبلها، لم يشهد مواطنو، تلك المناطق، حتى الآن تلك الجدية بها، من أجل إعادتهم إليها، وتشجيعهم على ذلك، (مع بعض الاستثاءات، التي تؤكد القاعدة ولا تنفيها)، حيث تأكد، أن بإمكان الحكومة فعل ذلك، (مثل: الحسينية- عدرا العمالية- وغيرها، مع التحفظ على شروط تلك العودة)، ولكن يبدو أن «خجلها» ما زال يمنعها.
حيث أعلنت الحكومة، خلال فترات متفاوتة، عن استعادتها السيطرة على الكثير من المناطق، (حمص وريفها غربي– القصير ومعلولا وبعض القرى الأخرى في القلمون– عدرا البلد– عدرا العمالية– الحسينية- مناطق في سهل الغاب– مناطق في الشمال والجزيرة– وغيرها من المناطق والقرى)، ولكن جزءاً هاماً من أهالي تلك المناطق، لم يعودوا إليها حتى الآن، أو يتم التضييق عليهم بتلك العودة، لأسباب عديدة، جلّها حججاً ومسوغاتٍ أمنية، وشروطاً وعراقيل أخرى.
علماً أن إعادة تهيئة البنى التحتية بهذه المناطق، وإعادة تخديمها، ودعوة الأهالي للعودة إليها، يعني إعادة الاستقرار لجزء هام من النازحين، وبدء حلحلة جزء من معاناتهم، وتخفيف العبء والضغط على المناطق الأخرى، بالإضافة إلى استعادة دور الأنشطة الخدمية والاقتصادية، لتلك المناطق، وما لذلك من انعكاس إيجابي على المستوى العام، بما في ذلك، استعادة الدولة لدورها ولهيبتها، فعلاً وقولاً، عند مواطنيها أولاً، وأمام الرأي العام، ثانياً، وليس أخيراً.
وما زال المواطن «النازح»، يبحث عن ذاك «الخجل»، لدى حكومته، علّه يساعدها، ويساعدنا، على تبريره!.