قراءة أولية في الجوانب العسكرية للعدوان على غزة
هل انتصرت المقاومة الفلسطينية؟ الاجابة مدوية برسم أميركا وبريطانيا، كما سيتضح لاحقاً، وعودة نتنياهو منكسراً يجر ذيول الخيبة وانحسار الغطرسة وحالة من الارتباك والتخبط.
قبل الاعلان عن هدنة وقف اطلاق النار لمدة 72 ساعة، ساد قلق معلن بين الاوساط الأميركية، في المؤسسة الحاكمة والنخب الثقافية والسياسية والاعلامية على السواء، لحجم الخسائر العسكرية “الاسرائيلية” وتواضع اداء القبة الحديدية وعدم قدرة الكيان الصهيوني على حسم نتيجة عدوانه على قطاع غزة ضمن المهلة الزمنية القصيرة الممنوحة، حتى بعد تمديدها، ودخول قوات “النخبة” من قواته الخاصة والمفاجآت الميدانية التي تكبدتها على أيدي المقاومة الفلسطينية.
جريدة “نيويورك تايمز” قالت بصريح العبارة ان المقاومة “حققت نصرا كبيرا،” عدد 6 آب الجاري. واوضحت ان صواريخ المقاومة اغلقت مطار اللد “شريان الحياة للعالم الخارجي،” لأول مرة دون ان تستطيع “اسرائيل” الرد ميدانيا سوى تدمير منازل المدنيين والحاق مزيد من الخسائر البشرية بينهم، مما “يؤكد على قدرة المقاومة الحاق اضرارا اقتصادية باسرائيل.”
النشرة العسكرية الاسبوعية المتخصصة، جينز، اشارت في عنوان مقالها الى “المقاومة الفلسطينية تكبد القوات الاسرائيلية خسائر بالغة في غزة،” عدد 1 آب الجاري، وان نحو 40% من جنودها القتلى لقوا حتفهم نتيجة اصابتهم بالقذائف الصاروخية المضادة للدروع “بالرغم من تكتم الناطق العسكري على كيفية مقتل الجنود” (عدد 30 تموز). واوضحت ان العامل الحاسم في الاداء المقاوم “يعود الى تطبيق تكتيكات حزب الله اللبناني .. واستخدام اساليب واسلحة متطورة نسبيا لتوريط القوات الاسرائيلية في قتال يجري على مسافات قريبة واستطاعت تكبيد (الغازي) خسائر كبيرة.”
وكشفت ايضا ان المقاومة الفلسطينية اطلقت 3،712 قذيفة صاروخية، بمعدل 128 صاروخا يوميا على امتداد 29 يوما قبل استئناف المعركة، منها نحو 356 صاروخ اطلقت على القوات البرية المتوغلة في قطاع غزة؛ وان القبة الحديدية “اعترضت نسبة صواريخ اقل من جولة عامود السحاب،” عام 2012. واضافت ان زخم اطلاق الصواريخ في المواجهة السابقة آنذاك سجل معدلات اعلى اذ بلغت اطلاق 188 صاروخا في اليوم.
وفندت الاسبوعية المختصة، جاينز، اداعاءات “اسرائيل” بان خططها الحربية حققت اهدافها مشيرة الى اضطرارها تعديل تعريفها للاهداف المقصودة: القضاء على حركة المقاومة المسلحة، ثم تدمير الانفاق التي لم ترد في الخطاب السياسي كهدف للعدوان. بل إن صمود المقاومة في غزة لفترة طويلة لم يكن متوقعاً لدى أوساط صناع القرار. ونُقل عن احد القادة العسكريين “الاسرائيليين” قوله ان هدف القضاء على المقاومة المسلحة “سيتطلب بقاء (اسرائيل) في القطاع نحو سنتين،” مع ما يرافقه من تراكم سيل الخسائر بين صفوف الجنود الذين سيصبحون هدفا سهلاً لحرب العصابات، فضلا عن الخسائر المادية في جانب العربات المدرعة وناقلات الجند، مما اضطر الكيان الصهيوني الى سحب ناقلة الجند المدرعة اميركية الصنع من طراز M-113 من ارض المعركة في وقت مبكر من “حربه البرية” عقب الفتك باحداها ومصرع جنديين احدهما يحمل الجنسية الاميركية. (راجع تقرير المركز بتاريخ 25 حزيران 2014).
الآلة الاعلامية “الاسرائيلية” وامتداداتها الغربية كرست صورة “الجيش الذي لا يقهر” في الزمن الغابر، منذ بداية الاعتداءات على قطاع غزة في خمسينيات القرن المنصرم، واعتماده استراتيجية القوات المدرعة القادرة على تدمير كل شي في طريقها، مرورا بعدوان عام 1967 والاجتياحات المتتالية للجنوب اللبناني، وانتهاء بانكفائه عن ارض الجنوب وانتصار المقاومة في 25 أيار 2000؛ وبدء عصر الانكسارات والهزائم “الاسرائيلية” في كافة المواجهات التي تلتها: 2006، 2008/2009، 2012 و2014.
جهد الخبراء العسكريون، خاصة في الدول الغربية، الى تبرير تعثر القوات البرية “الاسرائيلية” المدرعة في رمال قطاع غزة بأنه يعود الى استراتيجيتها المستندة الى القتال بالمدرعات في بيئة رملية مفتوحة بدلا من حرب المدن.
يشير اولئك القادة العسكريون الى “عدم استيعاب القوات الاسرائيلية لدروس الحروب السابقة، بينما اثبت المقاتل الفلسطيني تكيفه مع الظروف المستجدة واتقان الدروس المستفادة من تاريخ المواجهات .. لا سيما في مجالات التدريب واستخدام الاسلحة الخفيفة التقليدية.” كما اقر هؤلاء باتخاذ المقاومة الفلسطينية زمام المبادرة في الميدان وعدم انتظار العدو ليأتي اليها، بخلاف ما كان عليه الأمر في عدواني الرصاص المصبوب (2008/2009) وعامود السحاب (تشرين الثاني 2012). في الاخير، نالت الغارات الجوية الصهيونية من نائب قائد كتائب القسام، احمد الجعبري، واغتالته مبكرا. اما في العدوان الراهن فقد تحصن القادة العسكريون بالانفاق عميقا تحت الارض وحافظوا على السيطرة والتحكم في سير العمليات والتوجيهات العسكرية، عززها سبل الحماية التي وفرتها الوحدات اللوجستية استعدادا لخوض معركة طويلة الأمد.
من الثابت ايضا ان المقاتلين الفلسطينيين طبقوا الخبرة المستفادة لأهمية سلامة نظم القيادة والتحكم اثناء المعركة، وبقيت على ما هي عليه لا يمسها سوء بالرغم من اشتداد القصف “الاسرائيلي” برا وجوا وبحرا، بل حافظت المنظومة على تماسكها وابقاء شبكة الاتصالات فيما بينها صالحة للعمل وادامة الاتصال مع الوحدات الصاروخية والقوات الخاصة؛ واستطاعت شن هجمات ناجحة خلف خطوط القوات المعتدية في ظل القصف المكثف، وكبدتها خسائر عالية لم تعهدها من قبل.
في هذا الصدد، نقلت نشرة “جاينز” المذكورة على لسان احد القادة العسكريين السابقين من الفلسطينيين، برتبة لواء شارك في معارك عام 1982، قوله ان ما حققته المقاومة في قطاع غزة من اصابات في صفوف العدو فاق ما تكبدته “القوات الاسرائيلية” في كافة المواجهات التي دارت في الجنوب اللبناني مع الفلسطينيين وحلفائهم مجتمعة.
ابداع المقاتل الفلسطيني تجسد في الاستفادة القصوى من انشاء الانفاق التي سبقه اليها المقاتل الفيتنامي واللبناني، واضحت جزءاً لا يتجزء من منظومة الدفاع عن ارض وشعب وكرامة القطاع. وشاع بين الاوساط الاعلامية والاستخبارية نبأ “اعتراض القوات الاسرائيلية” لمجموعة من المقاتلين في منتصف شهر تموز الماضي بعد خروجهم من احد الانفاق مما ادى الى استعجال القيادة العسكرية للدخول في حرب برية.
قيل حديثا عقب تطور حرب المدرعات في الحرب العالمية الثانية ان افضل وسيلة لالحاق الهزيمة بهجوم مدرع هو في انجاز دفاع في العمق باستطاعته استدراج العربات المدرعة الى مناطق الفناء المحقق. الأمر الذي طبق نبوءته بامتياز المقاتل الفلسطيني في العدوان الجاري. في المقابل لم يستوعب القادة “الاسرائيليون” الأهمية التكتيكية التي توفرها شبكة الانفاق للمقاتل، اسوة باستخفاف القيادة الاميركية من عبقرية وابداعات المقاتل الفيتنامي، ووجدت عرباته المدرعة نفسها مطوقة بوابل من النيران المباشرة في مساحة جغرافية ضيقة تعسر عليها المناورة والالتفاف. ووجد قادة العدوان انفسهم امام معادلة تراكم الخسائر البشرية وتحول مدرعاته الى توابيت حديدية مما دعاهم الى اتخاذ قرار بالانسحاب من جانب واحد.
برع الفلسطينيون في التكيف مع ظروف حرب العصابات، وشكلت الصليات الصاروخية المتتالية للمستعمرات والمنشآت “الاسرائيلية” نصرا معنويا ونفسيا هائلا، بيد ان فعالية السلاح في الشق العسكري كانت متواضعة، اذ الحق خسائر بشرية طفيفة قياسا بحجم ووتيرة القصف التي لم تتوقف. بل سجلت قذائف الهاون قصيرة المدى نجاحا في الاراضي المغتصبة المحيطة بالقطاع افضل مما سجلته الصواريخ متوسطة المدى. وفاجأت المقاومة باستراتيجيتها الصاروخية عدوها، لا سيما عند اطلاقها لصواريخ آر-160 التي هرع على اثرها المستعمرون الصهاينة في وسط وشمال فلسطين المحتلة الى الملاجيء. يتميز ذلك الجيل من الصواريخ “غير الموجهة” بعدم الدقة في اصابة الهدف، بيد ان تلك الخاصية المتواضعة كان لها اثرا نفسيا معنويا هائلا في صفوف “الاسرائيليين” واربك نمط حياتهم المعتادة. ولعل اهم النتائج برهنه المقاتل الفلسطيني واستراتيجيته القتالية في التصدي الفعال “لاسرائيل” في حرب غير متكافئة، وصمود غير متوقع اربك القيادات السياسية والعسكرية وخلط الاوراق.
كما سجلت استراتيجية المقاومة نصرا مؤزراً في مواجهة “القبة الحديدية،” التي استطاعت التغلب عليها باطلاق صليات كثيفة دفعة واحدة من الصواريخ اربكت نظم التحكم والاطلاق المرافقة لها. وذهبت الى اقصى مدى في التحدي باعلانها ان صواريخها ستنطلق باتجاه المدن والتجمعات الصهيونية في ساعة معينة، 9:00 مساء، غير آبهة بالقبة الحديدية، ووصلت اهدافها دون اي معوقات تذكر – كما شهد بذلك معظم المراقبين والمراسلين الصحفيين.
اطاح الخبراء في الاستراتيجية والاسلحة العسكرية بمزاعم “اسرائيل” حول فعالية القبة الحديدية، كما سبق وتناولها تقرير المركز بتاريخ 18 تموز. وجاء على لسان استاذ العلوم والتقنية في معهد ماساتشوستس التقني – إم آي تي – المرموق، تيد بوستول، قوله ان “معدل اعتراض صواريخ القبة الحديدة كان متدنيا جدا – وربما بحدود 5% او أقل.” ومضى موضحا ان المهمة المنوطة بأي منظومة صاروخية تكمن في “تصدي الصاروخ المعترض للرأس الامامي المتفجر للصاروخ القادم وتدميره. اما وان اصطدم رأس الصاروخ المعترض بالجزء السفلي من الصاروخ القادم، فكل ما يستطيع انجازه هو الحاق الضرر بانبوب المحرك الصاروخي، الذي هو عبارة عن انبوب فارغ .. وعمليا ليس له اي تأثير على حصيلة المواجهة” بين الجسم المتفجر والجسم المعترض.
تشير تقديرات الجانب “الاسرائيلي” للترسانة الصاروخية للمقاومة، بكل انواعها، الى امتلاكها نحو 10 آلاف صاروخ، حسبما جاء في تقرير عسكري بتاريخ 5 آب الجاري؛ اطلق “او تم تدمير” نحو الثلث منها – 3,356 مقذوف. واضاف ان شبكة الانفاق استهلكت نحو 1,800 طن من الاسمنت المسلح غطت مساحة بطول 3 كلم؛ وزعم تدمير 32 نفقا امتد 14 منها الى داخل اراضي فلسطين المحتلة، ونفقين يقعان على بعد 500م من الشريط الحدودي.
مؤشرات على الجولة المقبلة من الحرب
يجمع الخبراء العسكريون على ان استراتيجية الانفاق ادخلت عنصرا اضافيا في المعركة وضاعفت من صراع الارادات: الطرف المعتدي سيمضي في جهوده للتحقق منها وتدميرها؛ والطرف المقاوم سيزيد من مرونة حركته وتكتيكاته كي يبقي تهديده قائما ضد القوات البرية الغازية والنيل من معنوياتها، على اقل تعديل، واستدراجه باستمرار لخوض معارك يحسن اختيار مكانها وزمنها والسيطرة على نتائجها لا سيما فيما يتعلق بأسر مزيد من الجند والاحتفاظ بجثث قتلاه.
في الحرب ضد الانفاق، التي جربها الاميركيون في فيتنام وفشلوا في القضاء عليها رغم عدم التكافؤ في القوات والمعدات والتقنيات، ستخصص “اسرائيل” امكانيات تقنية اضافية للقضاء عليها، بدءا باستخدام الانسان الآلي، الروبوت كما يروج له اعلاميا، وتطوير سلاح “قنبلة الباريوم الحرارية،” التي تعمل على تكثيف عنصر الاوكسجين المتوفر في المحيط لاحداث موجة متواصلة من الانفجارات الضخمة شديدة الحرارة، من شأنها الفتك بكل ما يتواجد في دائرة الانفجار من بشر ومعدات، وتفريغ المحيط من الاوكسجين بالكامل.
استمرار المواجهة المباشرة في قطاع غزة لن ينحصر على نطاق القطاع فحسب، بل بدأت شراراته تمتد الى الضفة الغربية والتي وضعتها فصائل المقاومة ضمن سلم اولوياتها لاشعال مواجهات اخرى بشّر البعض بها بانها ستكون الانتفاضة الشعبية الثالثة تستنزف قوات الاحتلال، النظامية والاحتياط، وتضطره للانتشار والاشتباك على جبهتين مفتوحتين في آن واحد. بصرف النظر عن الوجهة التي ستتخذها المواجهات المرتقبة في الضفة الغربية، محدودة ام شاملة، فانها ستضاعف من مأزق الكيان الصيهوني المسكون بهاجس الأمن الوجودي، وعدم غض الطرف عن انتقال المواجهات الى المحتل من فلسطين عام 1948.
في المدى الاقليمي الابعد، تدرك “اسرائيل” ان عليها الاخذ بعين الاعتبار الترسانة الصاروخية الاكبر لدى المقاومة في لبنان وتحت تصرف حزب الله، والتي تقدرها الاستخبارات الغربية بان تعدادها يبلغ نحو 100،000 صاروخ – اي عشرة اضعاف ما يتوفر في قطاع غزة، فضلا عن نوعية ودقة اصابة افضل.
حقائق المواجهة مع حزب الله في تموز 2006 لا تزال ماثلة في اذهان القادة والمؤسسات العسكرية الغربية و”الاسرائيلية.” اطلق الحزب آنذاك نحو 4,200 صاروخ بمعدل 100 صاروخ يوميا معظمها من طراز كاتيوشا الذي يحمل رأسا متفجرا زنته 30 كلغم، ويبلغ مداه نحو 40 كلم. اصاب ما نسبته 22% منها المدن والتجمعات السكانية في شمال فلسطين المحتلة، والباقي انفجر في مناطق خالية. واستخدم الحزب اضافة لتلك الترسانة صواريخ متوسطة المدى من طراز فجر-3 ورعدد-1، اللذين يعملان بالوقود السائل من صنع ايران.
تقديرات الاستخبارات “الاسرائيلية” المستحدثة تشير الى ان حزب الله يمتلك نماذجا اكثر تطورا من هذين الصاروخين، فجر-3 وفجر-5، تصل مدياتها الى 60 كلم و 100 كلم، على التوالي؛ اضافة لعدد كبير من الصواريخ وقاذفات الهاون عيار 107 ملم و 122 ملم التي يصل مداها الى 25 كلم على الاقل، باستطاعتها الوصول الى عدد من المدن والتجمعات السكنية في شمالي فلسطين المحتلة. اما اعتماد “اسرائيل” على القبة الحديدية لمواجهة ذلك فيتطلب منها اعادة انتشار بطارياتها بالقرب من الحدود الشمالية والمجازفة بتخفيف عدد البطاريات المنشورة بالقرب من قطاع غزة.
المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية