«الماضي يفترس المستقبل»: عوائد رأس المال والنمو العالمي!
شارك 2500 شخص من ممثلي القوى الاقتصادية الكبرى العالمية، ومعهم اكثر من 40 رئيس دولة في المنتدى الاقتصادي العالمي المنعقد سنوياً في مدينة دافوس في سويسرا، من تاريخ 22-25 كانون الثاني من العام الحالي، واتفق هؤلاء جميعاً على رفع شعار (حل مشكلة اللاعدالة في التوزيع) وذلك في الدورة رقم 44 لعام 2014. ليعلنوا أن أغنى 1% من سكَّان العالم يملكون 46% من ثروات العالم، وثروة أغنى 300 شخص تزايدت بمقدار «524 مليار دولار»، خلال عام 2013 فقط!
تصدر كتاب الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي (رأس المال في القرن الحادي والعشرين) قائمة موقع أمازون العالمي لأكثر الكتب مبيعاً، وهو كتاب اقتصادي من 400 صفحة، يضم أكثر من 115 جدولاً وشكلاً توضيحياً للعلاقة بين متغيرات اقتصادية متنوعة لا تعتبر ضمن المواد الجذابة والأكثر مبيعا عادة!، ولم تكن تعتبر حتى محفزاً للمراكز البحثية، وتحديداً فيما يتعلق بالسؤال الرئيسي الذي يطرحه بيكيتي ويبحث عن إجابة له في قراءة مؤشرات وبيانات عشرين دولة منذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم، وهو: هل يؤدي تراكم رأس المال الخاص إلى تركّز الثروة في أيدي قلة متناقصة، كما اعتقد كارل ماركس في القرن التاسع عشر؟
أي مراقب يحق له التساؤل والتشكيك في الأسباب التي تدفع الإعلام العالمي - وهو القادر على (غمر) أي كتاب ومؤلف اقتصادي هام- مع الجامعات والمدارس الاقتصادية الكبرى، إلى تحويل كتاب من هذا النوع إلى مادة إعلامية هامة وتضخيم محتواه إلى ذلك الحد الذي يجعله موازيا لعمل ماركس، ولماذا تعيد المراكز العالمية إحياء ذكرى المنظّر الأساسي لحتمية نهاية المنظومة الرأسمالية وضرورة الانتقال الواعي والمنظم لمنظومة بديلة تماماً؟!
لعل قراءة بسيطة للكتاب الهام مع خلاصاته وتوصياته الأولية، توضح الصورة قليلاً، على الرغم من أن هذا لا يخفف من أهمية العمل العلمي المبذول في كتاب (رأس المال في القرن الحادي والعشرين).
فصول رئيسية
يدرس توماس بيكيتي في كتابه (رأس المال في القرن الحادي والعشرين) تفاعل العلاقة بين الدخل العالمي وتوزيع الثروة منذ القرن الثامن عشر في أكثر من عشرين دولة. ليدرس مؤشرات الدخل ورأس المال خلال هذه المرحلة، وتفاعلات العلاقة بين معدلات رأس المال ومعدلات الدخل، وهيكلية عدم المساواة، في الفصول الثلاثة الأولى، ويتحدث في فصله الأخير عن تنظيم رأس المال في القرن الحادي والعشرين ضمن أربعة أبواب رئيسية: الدولة والدور الاجتماعي في القرن الحادي والعشرين- إعادة التفكير في ضريبة الدخل التصاعدية- الضريبة العالمية على رأس المال- ومسألة الدين العام.
أرقام هامة
يشير بيكيتي إلى أن رأس المال الخاص يبلغ أضعاف الدخل الوطني في الدول المتقدمة، حيث كان ضعفي إلى ثلاثة أضعاف الدخل الوطني في عام 1970، ومن ذلك الحين وهو يرتفع بشكل متزايد في دول العالم المتقدم كافة ليبلغ اليوم 7 أضعاف الدخل الوطني في إيطاليا وخمسة أضعافه في فرنسا وأربعة أضعافه في ألمانيا.
وبالمتوسط فإن رأس المال الخاص العالمي اليوم يبلغ 4,5 ضعف الدخل العالمي السنوي، ويشير بيكيتي إلى أن اتجاهه الصاعد والمتسارع سيوصله إلى 7 أضعاف الدخل العالمي في نهاية القرن الحادي والعشرين.
كما يشير إلى أن معدلات الادخار العالمية خلال 1970-2010 هي أعلى من معدلات نمو الدخل الوطني، ومعدلات النمو السكاني، بينما كان الادخار الخاص هو من يحقق نمواً على حساب الادخار العام المتناقص.
عوائد رأس المالي المتراكم تنهك النمو
يشير بيكيتي في قراءته لوسطي معدل النمو العالمي (g)، ووسطي العائد الذي يحصل عليه رأس المال (r) ، إلى أن ما بعد العقد الأول من القرن العشرين مع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أي منذ عام 1913 بالتحديد إلى عام 2012، شهدت تسارعاً كبيراً في ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي العالمي، ولكن مع تسارع في نمو معدل العائد على رأس المال والذي يعتبر تاريخياً أعلى من معدلات النمو. حيث يسجل في المرحلة من 1950-2012 وسطي أعلى من 5%، بينما معدل النمو بأعلى نقطة له 3,8%.
ليشير الخط البياني المتوقع إلى تدهور معدل النمو الاقتصادي (g) بعد عام 2012 وتوقع هبوطه إلى حدود 1,5% مع نهاية القرن الحادي والعشرين، وبقاء عوائد رأس المال (r)عند مستوى 4,5%. في حال بقاء المنظومة العالمية كما هي.
(الماضي يفترس المستقبل)
في الخلاصة الأخيرة للكتاب، يوصف بيكتي المشكلة الرئيسية في الاقتصاد العالمي اليوم أن عدم المساواة الذي تعبر عنه العلاقة بين (r) معدل العائد على رأس المال المتصاعد، وبين ((g معدل النمو الاقتصادي واستمرار وتوسع اتجاه( r>g)
(العائد أكبر من النمو) وتعبر عن استمرار وتوسع ظاهرة نمو رأس المال المتراكم في الماضي بمعدل أسرع من النمو الاقتصادي ونمو الأجور تاريخيا وبشكل أكبر في المراحل الحالية والمستقبلية. حيث يرى أن رأس المال يعيد إنتاج نفسه أسرع من زيادة الناتج، فيما يوصفه بيكيتي بأن (الماضي يفترس المستقبل).
يقول بيكيتي: (المشكلة هائلة، وليس هناك من حل بسيط لها، فالنمو من الممكن أن يتحفز في الاستثمار في التعليم والمعرفة، وفي التكنولوجيا غير الملوثة ولكن أياً من هذا لن يرفع معدلات النمو إلى 4-5% في العام.) ليؤكد بأن إجمالي النمو الاقتصادي في العالم: (لن يتعدى 1-1,5% سنوياً في الأجل الطويل، مهما كانت السياسات الاقتصادية المتبعة).
إذا يربط بيكيتي بكل وضوح بين المستوى الحالي لتوزيع الثورة، الذي يدل عليه حجم الثروات الخاصة قياساً بحجم الدخل الاقتصادي العالمي، ليعتبر أن نمو رؤوس الأموال الخاصة يعتبر عائقاً أمام النمو الاقتصادي للدخول والأجور، وسيؤدي إلى مستويات من التفاوت غير مسبوقة مع استمراره فيقول: (إن نتائج آليات توزيع الثروة في الأجل الطويل هي مريعة غالباً، تحديداً أن التفاوت في توزيع الثروة تحول إلى ظاهرة عالمية).
تراجع وتأريض
وصل بيكيتي إلى توصيفات هامة لخطر التناقض ما بين الملكية الخاصة للثروات العالمية، وبين إمكانيات استمرار وتوسع النمو الاقتصادي وبالتالي التطور والتقدم البشري إلى الأمام. ووضع هذه المسألة التي تعتبر نقطة انطلاق في الماركسية موضع البحث والتداول العلمي والإعلامي العالمي.
ولكن على الرغم من أن الكاتب يؤكد بأنه (لا يوجد أي سبب يدفعنا للإيمان بأن الرأسمالية على نحو طبيعي ستعكس وحدها مسار تعاظم اللامساواة وغياب العدالة في توزع الدخل). إلا انه يعود للتساؤل: (ترى هل تؤدي قوى التوازن، وهي النمو والمنافسة والتطور التكنولوجي، في مراحل لاحقة، إلى خفض اللامساواة، وإلى تناغم أعظم بين الطبقات؟)
وينتهي إلى أن كل الهدف من طروحاته أن (يقدم النظام تنازلات مرحلية ليتيح لأبنائه القدرة على الحراك الطبقي والمفهوم هنا هو الانتقال من طبقة إلى أخرى!) لأن نتيجة توسع اللامساوة (التي تعتبر معقولة في حد معين، قد تتحول إلى اضطرابات تصبح خطيرة). كما نقل الصحفي (حسن شقراني) عن لقاء لتوماس بيكيتي مع إعلامي محافظ (ستيفين كولبير).
طرق إصلاحية للخروج
إلا أنه يدعو إلى حلول إصلاحية خلاصتها هي ما يلخصه في خلاصة كتابه قائلاً: (إن الحل الصحيح هو بالضريبة السنوية المتصاعدة على رأس المال، لانه يسمح بتخفيف التصاعد اللولبي لعدم المساواة من جهة، ويسمح بالمحافظة على التنافسية والحوافز التي ستسمح بتراكم جديد لرأس المال.)
أي أن بيكيتي لا يقترب في خلاصاته من تغيير ملكية الحجم الكبير من الثروات العالمية من قبل أفراد قلة، أي الملكية الخاصة للثروة، على الرغم من أنه يعتبر التراكم الرأسمالي السابق المسبب الرئيسي لعدم النمو اللاحق، ولنمو عائد رأس المال فقط، وبالتالي لعدم المساواة.
يرد ريتشارد وولف وهو بروفسور في جامعة ستانفورد الأميركية على سؤال حول خلاصات كتاب بيكيتي ليقول: (لا يمكن أن تقدم إسعافات أولية لمعالجة الرأسمالية، إلا أن أية إجراءات جزئية مصممة لتوقف النظام عن تحويل الثروة نحو الأعلى لن تكون قادرة على الاستمرار. منظومة الشركات الكبرى العالمية ستتراجع عن كل التصحيحات في اللحظة التي (ينقشع فيها الضباب)، وهم سيفعلونها ببراعة أكثر في هذه المرة، لأن لديهم خبرة الخمسين عاما الماضية) ريتشارد وولف من الداعين إلى تغيير طبيعة ملكية المنشآت الاقتصادية بشكل تدريجي لتتحول، إلى منشآت مدارة من قبل العمال. وهي أحد الاتجاهات المطروحة في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، والتي تعتبر متقدمة على طروحات بيكيتي الإصلاحية، التي توصف المشكلة وتخفف الحلول، باعتبار أن وولف وأمثاله يطرحون شكل الملكية كمشكلة ويبحثون عن حلول في النقطة الجوهرية سواء صح شكل الحل أم لا..
فتح باب الجدل الاكاديمي
الظروف الموضوعية للأزمة الاقتصادية العالمية اليوم، تضع مسألة شكل الملكية الخاصة للثروة العالمية موضع بحث من حيث إعاقتها للتقدم الاقتصدي والاجتماعي، انطلاقاً من النمو الاقتصادي، وصولاً للتنمية والفقر، وانتهاء بالبيئة. ليشكل كتاب بيكيتي أحد تجليات شدة وضوح إشكالية توزيع الثروة وضرورة بحث دوره في إعاقة النمو.
أما الخلاصات الإصلاحية فهي تعبير عن قوة المراكز العالمية للبحث العلمي ومستوى (أدلجتها رأسمالياً) والتي تحاول أن تستبق الحديث عن توزيع الثروة، لتقدم تنازلات بسيطة قبل أن يأخذ البحث مناحي أكثر جذرية.
لكن فتح الجدل الاكاديمي هو أحد تعبيرات ضعف المنظومة وعدم قدرتها على الإبقاء على سيادة مقولة (دع الأغنياء يغتنون فهم قاطرة النمو) وهي الشعار الضمني للنيوليبرالية. التي يجمع الجميع على تجاوزها ودفنها، والترويج لكتاب بيكيتي ربما يعلن عن رضوخ المنظومة العالمية لنهاية النيوليبرالية ومحاولتها تصعيد الطروح الاكاديمية التي يقابلها تقديم حلول إصلاحية.
هو ما يفسر أن (يتصدى) منتدى أقوياء العالم وطغمته المالية وسلطتهم السياسية في دافوس لمسألة توزيع الثروة ويعلنوها مشكلة عالمية! مقترحين أيضاً (ضريبة على الثروات!).