التقارب الصيني الهندي: تحول استراتيجي يعيد تشكيل موازين القوى العالمية
في منعطف تاريخي يعكس تحولاً جيوسياسياً عميقاً، تشهد العلاقات بين الصين والهند تقارباً ملحوظاً بعد سنوات من التوترات الحدودية والتنافس الإقليمي. هذا التحول لم يأت من فراغ، بل جاء نتيجة لمجموعة من العوامل الدولية والمصالح المشتركة التي دفعت العملاقين الآسيويين إلى إعادة تقييم أولوياتهما الاستراتيجية في ظل بيئة دولية متقلبة.
التحول الجيوسياسي: من التنافس إلى الشراكة الاستراتيجية
أكد وزير الخارجية الصيني وانغ يي خلال لقائه بنظيره الهندي سوبراهمانيام جيشانكار في نيودلهي على ضرورة تعزيز الشراكة بين البلدين بدلاً من التنافس، قائلاً: «يجب على الصين والهند تطوير فهم استراتيجي صحيح والنظر إلى بعضهما كشركاء وفرص متاحة، وليس كخصوم أو تهديدات». هذه التصريحات لم تكن مجرد دبلوماسية تقليدية، بل تعكس إدراكاً عميقاً لدى القيادتين بأهمية التعاون في ظل التحديات الدولية المشتركة.
لطالما نظرت الصين إلى الهند كشريك محتمل في «الجنوب العالمي»، مستغلة المظالم المشتركة للدول النامية ضد السياسات الأمريكية الأحادية. وهذا النهج يتوافق مع الرؤية الصينية الأوسع لتعزيز نظام دولي متعدد الأقطاب ونشر الديمقراطية في العلاقات الدولية، حيث تشكل الدولتان معاً تعداداً سكانياً يتجاوز 2.8 مليار نسمة.
العوامل الدافعة: سياسات ترامب وضرورات الاقتصاد
شكلت السياسات التجارية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب عاملاً حاسماً في تسريع التقارب الصيني الهندي. فقد هددت إدارة ترامب بمضاعفة الرسوم الجمركية على السلع الهندية لتصل إلى 50%، مشيرة إلى واردات الهند من النفط الروسي. هذه الإجراءات جاءت في إطار سياسة أمريكية أكثر تشدداً تجاه الشركاء التجاريين، حيث اتهم وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت الهند بـ«الربح غير المشروع» من مشتريات النفط الروسي، مع إشارات غير مباشرة تجاه عائلة أمباني الهندية الثرية.
في المقابل، قدمت الصين نفسها كشريك بديل أكثر موثوقية، حيث اتفق البلدان على تسهيل تدفقات التجارة والاستثمار الثنائية، واستئناف الرحلات الجوية المباشرة، ومعالجة طلبات التأشيرات لتعزيز التبادلات بين الشعبين. كما أكدت الصين للهند أنها ستؤمن إمدادات من معادن الأرض النادرة والأسمدة وآلات حفر الأنفاق، مما يعكس رغبة صينية حقيقية في بناء شراكة اقتصادية استراتيجية.
المجالات العملية للتعاون: من الحدود إلى الاقتصاد
شهدت العلاقات الثنائية تطوراً ملموساً على عدة مستويات:
- الحدود المتنازع عليها: أجرى الجانبان الجولة الرابعة والعشرين من محادثات الممثلين الخاصين بتسوية الحدود، وأكدوا التزامهم «بالحفاظ المشترك على السلام والهدوء في مناطق الحدود». ورغم تعقيدات الملف الحدودي، إلا أن البلدين توصلا إلى اتفاقيات عملية لتسيير دوريات مراقبة مشتركة.
- التجارة والاستثمار: بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين عام 2024 نحو 118.4 مليار دولار أمريكي، مما يجعل الصين الشريك التجاري الأكبر للهند. وتدرس الهند حالياً تخفيف القيود على الاستثمارات الصينية، حيث تبحث السماح بنسبة 24% من الاستثمارات الصينية في قطاع الإلكترونيات إذا تضمن ذلك نقل التكنولوجيا لشريك هندي.
- التجارة الحدودية: يبحث البلدان استئناف التجارة الحدودية للسلع المحلية بعد توقف دام لأكثر من خمس سنوات، عبر ثلاث نقاط محددة على طول حدودهما الجبلية. هذه التجارة التي تبادلت سلعاً مثل التوابل والسجاد والأثاث الخشبي وعلف الماشية، لم تكن ذات قيمة مالية كبيرة (3.16 مليون دولار في 2017-2018) لكنها تحمل دلالة رمزية كبيرة على تحسن الأجواء بين البلدين.
التحديات والعقبات: طريق طويل نحو الثقة الكاملة
رغم المؤشرات الإيجابية، تبقى عقبات حقيقية تعترض طريق التقارب الصيني الهندي وهو الوتر الذي كان الغرب يعزف عليه طوال الوقت:
- الخلافات الحدودية التاريخية: لم تحل الخلافات الحدودية العالقة منذ حرب 1962، حيث عزز كلا البلدين وجودهما العسكري على الحدود بنشر 50-60 ألف جندي على جانبي الحدود.
- العلاقات الصينية الباكستانية: تشكل العلاقة الوثيقة بين الصين وباكستان مصدر قلق دائم للهند، خاصة في ظل الدعم العسكري الصيني المتزايد لإسلام أباد.
- التنافس الإقليمي: يتنافس البلدان على النفوذ في المحيط الهندي وجنوب آسيا، حيث سعت الهند إلى تعزيز تحالفاتها مع دول مثل الفلبين وسريلانكا في إطار استراتيجية لمواجهة النفوذ الصيني المتصاعد.
- العجز التجاري الهندي: يمثل العجز التجاري الكبير للهند مع الصين (99.2 مليار دولار في 2024/2025) مصدر قلق للاقتصاد الهندي، مما يدفع نيودلهي للضغط من أجل تقليله.
الأبعاد الاستراتيجية: نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب
يتجاوز التقارب الصيني الهندي المجالات الثنائية ليمثل إعادة تشكيل للتحالفات الإقليمية والدولية. فمن ناحية، يساهم هذا التقارب في تعزيز مجموعة بريكس كمنافس فعلي للنظام الدولي التقليدي الذي تقوده الولايات المتحدة. ومن ناحية أخرى، يعكس نجاحاً للدبلوماسية الصينية والروسية في استغلال الفرص الناتجة عن السياسات الأمريكية الأحادية.
في هذا الإطار، يمكن فهم التصريحات الروسية التي تؤكد على أهمية العلاقات بين الهند والصين لتقدم العالم، كما يمكن تفسير الزيارة المقررة للرئيسين شي جين بينغ وفلاديمير بوتين ورئيس الوزراء مودي لقمة منظمة شنغهاي للتعاون في تيانجين كتجسيد لتحالف استراتيجي جديد يجمع ثلاثة من الزعماء المتخاصمين - بدرجات متفاوتة - مع الولايات المتحدة.
مستقبل التحول الاستراتيجي
يبدو أن التقارب الصيني الهندي الحالي ليس مجرد تقارب تكتيكي مؤقت، بل يعكس تحولاً استراتيجياً أعمق في السياسة الدولية. فبعد سنوات من المحاولات الأمريكية لجر الهند نحو فلك الغرب، جاءت السياسات التجارية لترامب لتعكس هذه الجهود وتدفع نيودلهي نحو التقارب مع بكين.
هذا التحول يصب في صالح تعزيز نظام دولي متعدد الأقطاب، حيث تلعب مجموعة بريكس دوراً متزايد الأهمية في مواجهة الهيمنة الغربية. ورغم التحديات والعقبات التي تعترض طريق التقارب الكامل بين الصين والهند، إلا أن المصالح المشتركة والضرورات الجيوسياسية تبدو أقوى من أي وقت مضى.