التعتيم الإعلاميُّ «الإسرائيليُّ» على خسائر الضربات الإيرانيَّة
تشهد «إسرائيل» منذ بدء التصعيد العسكريِّ مع إيران في فجر 13/حزيران، سياسة تعتيمٍ إعلاميٍّ صارمٍ، لتقليل الإفصاح عن حجم الخسائر الفعليَّة الناجمة عن الضربات الإيرانيَّة. تعتمد هذه السياسة على آلياتٍ متعدِّدةٍ تشمل: الرقابة العسكريَّة المباشرة، مصادرة محتوى الصحفيِّين، وحذف التقارير المسرَّبة، بهدف حماية «صورة الردع» «الإسرائيلية» داخليّاً وخارجيّاً، بعد أن تلقَّت ضرباتٍ مؤلمةً في عمق الجبهة «الإسرائيلية» الداخليَّة بعد مضي أسبوع على الهجمات التي شنَّتها على إيران.
وصل الأمر بالتعليمات الصادرة عن سلطات الاحتلال في هذا الشأن، أن أصدرت تعميماً صباح الجمعة (20 حزيران 2025) يقول: «يُطلَبُ من المراسلين الأجانب الراغبين في البث من (إسرائيل) أثناء القتال الحصول على موافقة كتابية مسبقة من الرقابة العسكرية، سواء على البث نفسه أو موقعه، ويُعَدّ البث دون الحصول على الموافقة اللازمة من مناطق القتال أو الضربات الصاروخية جريمة جنائية وانتهاكاً لقواعد الرقابة».
مظاهر هذا التعتيم وأدلَّته الموثَّقة كثيرةٌ، بدءاً من حذف التقارير العسكريَّة، إذ اختفت تقارير نشرتها «يديعوت أحرونوت» عن تضرُّر رادارٍ متقدِّمٍ في قاعدة عوفدا جنوبي النقب بعد ساعاتٍ فقط من نشرها، بأمرٍ من الرقابة العسكريَّة، وتكرَّر ذلك مع موقع «واللا» الإخباري الذي أزال تحقيقاً عن «أضرارٍ كبيرةٍ في قاعدة نيفاتيم الجويَّة»، وفي هآرتس: «فشل منظومة القبَّة الحديديَّة: 7 صواريخ اخترقت دفاعات تل أبيب»، وتايمز أوف إسرائيل: «وزير الدفاع يعترف: الضربة الإيرانيَّة غيَّرت المعادلة الأمنيَّة»، وكالكاليست: «الخسائر الاقتصاديَّة: 300 مليون دولار أضرار البنية التحتيَّة»، وغيرها الكثير.
وفقاً لتحليل «مراسلون بلا حدود»، حُذف 23 تقريراً خلال 48 ساعةً فقط بعد الضربات الإيرانيَّة، تمثِّل 85% من التغطية الأوَّليَّة للخسائر، وأمَّا منصَّة «بنك المعلومات الإسرائيليِّ» (BlackedOut.news) فوثَّقت حذف 1,200 مادةٍ بين 2023-2025، منها 90% تتعلَّق بالخسائر العسكريَّة، لا سيَّما بعد الضربات الإيرانيَّة المباشرة. وفي دراسةٍ لـ«معهد فريدم هاوس» أظهرت أنَّ 70% من فيديوهات الدمار في قاعدة «نيفاتيم الجويَّة» حُذِفَت من منصَّات مثل «يوتيوب» و«تيك توك» بطلبٍ إسرائيليٍّ تحت ذريعة «الأمن القوميِّ».
كل هذا التعتيم كانت تمارسه الرقابة العسكريَّة مسبقاً قبل النشر، إذ رُفِضَت 40% من المواد المرسلة من الصحفيِّين قبل نشرها، لا سيَّما تلك التي توثِّق أضرار القواعد العسكريَّة. وقد أوضحت صحيفة «هآرتس» في تقريرٍ مسرَّبٍ لها أنَّ 60% من تقارير مراسليها عن الضربات الإيرانيَّة رُفِضَت أو نُسِفَت قبل الطباعة، تطبيقاً لبنودٍ من قانون الطوارئ تسمح بحذف أيِّ محتوى «يهدِّد الأمن». بدورها وزارة الأمن القوميِّ وجَّهت وسائل الإعلام بعدم تغطية مواقع سقوط الصواريخ، كما حدث في حيفا وتل أبيب، ورصدت أجهزة الأمن الداخلي (الشاباك) حسابات «تويتر» التي تنشر التسريبات وعملت على التحكُّم في تدفُّق المعلومات على منصَّات التواصل، وتعقُّب «المحتوى المسيء» وفق تعريفها.
وصولاً إلى قمع التغطية المرئيَّة؛ إذ داهمت الشرطة «الإسرائيلية» غرف صحفيِّين عرب في فندقٍ بحيفا وصادرت معدَّاتهم بعد تصويرهم ميناء حيفا المستهدف، بدعوى «انتهاك الأمن القوميِّ». بدوره وزير الأمن القوميِّ «إيتمار بن غفير» دعا صراحةً إلى منع القنوات الأجنبيَّة من البث المباشر لأماكن سقوط الصواريخ.
في مقابل ذلك عملت سلطات الكيان على التفرُّد بالرواية الرسميَّة، التي غالباً ما ظهرت هشَّةً وغير دقيقةٍ حدَّ التضارب، فبينما أعلنت «إسرائيل» أنَّ «منظومة السهم الحديديِّ» اعترضت 99% من الصواريخ الإيرانيَّة، كشفت صور الأقمار الصناعيَّة (ماكسار/رويترز) تدمير حظائر طائراتٍ في قاعدة نيفاتيم، ما يناقض الرواية الرسميَّة، على سبيل المثال لا الحصر.
بيت العنكبوت
ربَّما لسنا بحاجة اليوم لطرح سؤال «لماذا تخفي (إسرائيل) خسائرها؟»، لا سيَّما بعد ما منيت به من خسائر فادحة طيلة عامين على يد المقاومة الفلسطينيَّة في غزة، لكن لأيِّ مدى تنجح محاولاتها في حماية أسطورة «الردع» والحفاظ على صورة الجيش «الإسرائيلي» كقوَّةٍ لا تُقهر، التي كانت أولى أولويَّاتها الاستراتيجيَّة، كتفوُّق منظوماتها الدفاعيَّة مثل «القبَّة الحديديَّة»، التي فشلت في اعتراض عشرات الصواريخ الإيرانيَّة. وفق تحليل «هآرتس»، فإنَّ الكشف عن الخسائر يهدِّد هذه الصورة ويُضعف الردع النفسيَّ ضدَّ إيران وحلفائها.
حتَّى الحجج والأسباب العسكريَّة/الأمنية لمنع إيران من تقييم دقَّة ضرباتها وتطوير تكتيكات جديدةٍ غدت واهيةً، فالهدف إخفاء نقاط الضعف في أنظمة الدفاع الجويِّ، خاصَّةً بعد اختراق صواريخ إيرانيَّةٍ للدفاعات في حيفا وتل أبيب. وتجنُّب الصدمة الداخليَّة خشية تحوُّل الغضب الشعبيِّ من فشل المنظومة الأمنيَّة إلى هجماتٍ على الحكومة، لا سيَّما بعد نشر فيديوهات الدمار في تل أبيب التي وُصفت بـ«الكابوس الدعائيِّ».
لكن ما لم يفهمه الكيان اليوم أنَّ هذا التعتيم ليس فعَّالاً في عصر التسريبات الرقميَّة، إذ كشفت الأدلَّة المتدفِّقة أنَّ إيران لا تحتاج لإعلامٍ رسميٍّ ما دامت الصور تصل مباشرةً من تل أبيب إلى منصَّات التواصل، كما أنَّ الاستراتيجيَّة «الإسرائيلية» تحوَّلت من «إخفاء الخسائر» إلى «توظيفها دعائياً»، لكنَّها فشلت في إخفاء حقيقةٍ مفادها أنَّ العمق «الإسرائيلي» ليس آمناً.
كل ذلك أدَّى إلى تداعيات على الجبهة الداخليَّة ليست بالقليلة، مثل تآكل الثقة بالمؤسَّسات، ما يدفع «الإسرائيليين» لتجاوز الرقابة بالاعتماد على المصادر الإيرانيَّة. حتَّى محاولاتهم لمنع الذعر بين المستوطنين لا تجدي نفعاً، لا سيَّما بعد تدمير مبانٍ سكنيَّةٍ بأكملها في رامات غان وريشون لتسيون، وهو ما دفع المستوطنين للمغادرة عن طريق البحر أو سيناء لوجهاتٍ أخرى خوفاً من الموت، ممَّا يفاقم أزمة مصداقيَّة الحكومة، وهو ما يكشف العورة «الإسرائيلية» ويبرز الهشاشة الأمنيَّة، فالعشرات من التقارير لمراسلين كانوا يغطُّون الضربات في الكيان وصفوا الضربات بأنَّها «غير مسبوقةٍ» في دقَّتها، ما وضَّح أنَّ منظومات الدفاع «الإسرائيلية» لم تكن جاهزةً لهجومٍ بهذا الحجم.
وليس خافياً على أحد -منذ 7 أكتوبر حتَّى بدء هذه الهجمات على إيران- أنَّ نتنياهو يستخدم التعتيم لتمديد بقائه في الحكم وتجنُّب المحاسبة على فشله الأمنيِّ في غزَّة سابقاً وفي إيران اليوم، خاصَّةً مع تزايد الضغوط بسبب حرب غزة. حتَّى المحاولات للخروج بروايةٍ رسميَّةٍ كانت هزيلة وكوميديّة، بينما ركَّز الإعلام العبريُّ على الأضرار المدنيَّة (مستشفيات ومنازل)، في محاولةٍ لاستدرار العطف الدوليِّ، قابلتها موجة سخريةٍ واسعةٍ ومقارنةٌ وتذكيرٌ -بالصور والفيديوهات والتقارير- بما فعله الجيش «الإسرائيلي» في غزة، وما تسبَّب به من وضعٍ إنسانيٍّ وصفته المنظَّمات الأمميَّة بالكارثيِّ، على لسان العديد من المؤثِّرين العالميِّين وصنَّاع الرأي.