تطورات الحرب في السودان: مسارات الدمار وصراعات القوى
بعد شهرين من الهجوم الكبير الذي شنّه الجيش السوداني، والذي تمكّن خلاله من استعادة مواقع استراتيجية عديدة من قبضة قوات الدعم السريع، وإعلان عودة الحكومة إلى العمل من الخرطوم، ما زالت الحرب لم تنتهِ. بدلاً من ذلك، تحوّلت إلى صراع أكثر تعقيداً، حيث لجأت قوات الدعم السريع إلى تكتيكات جديدة تهدف إلى زعزعة الاستقرار وإعادة رسم خريطة القوة.
من المواجهات الميدانية إلى حرب المسيرات والمدن
لم تعد المعارك تقتصر على جبهات القتال التقليدية، بل امتدت إلى قلب المدن والمناطق التي ظلت بمنأى عن العنف لفترة طويلة. فبعد خسارتها مواقع حيوية، اعتمدت قوات الدعم السريع على تكتيك جديد نوعاً ما في الحرب السودانية، مستخدمةً المسيرات الانتحارية لقصف مواقع كانت تُعتبر آمنة، وكذلك استهداف القصر الجمهوري، الذي تعرّض لقصف مدفعي بعيد المدى. كما سيطرت على مدينة النهود في كردفان، وهي نقطة استراتيجية تتحكم في طرق الإمداد والدعم للجيش السوداني إلى ولاية كردفان.
لكن الأخطر كان الهجوم على بورتسودان، المدينة المطلة على البحر الأحمر شرق السودان والتي تُعد شريان الحياة للسودانيين، حيث تستقبل المساعدات الإنسانية وتُشحن منها الإمدادات الطبية والغذائية إلى مختلف أنحاء البلاد. استهدفت المسيرات المستودعات الاستراتيجية للمشتقات النفطية، ومحيط الميناء الجنوبي في بورتسودان، ومحطة كهرباء ميناء بشائر، ومحيط مطار بورتسودان، ومستودعات شركة النيل للبترول، والقواعد العسكرية القريبة مثل "فلامنغو" و"عثمان دقنة". هذه الضربات لم تكن عشوائية، بل مُخطّطة لشلّ قدرة الدولة على العمل، وهو ما دفع دولاً مثل قطر والسعودية إلى إدانة هذه الهجمات ووصفها بأنها "تستهدف استقرار المنطقة بأكملها"،
هذه الهجمات الانتقامية جاءت بعد هجوم جوي للجيش السوداني على مطار نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور السبت الماضي، وحسب ما تناقلت بعض التقارير فقد أدت هذه الضربات إلى خسائر مؤلمة في قوات الدعم السريع مما أدى إلى تدمير مستودعات أسلحة وذخائر وغرف تحكم وسيطرة على المسيّرات وأجهزة تشويش ودفاع جوي، وتدمير طائرة رابضة بأرض المطار كانت تستعد للإقلاع بعدما تحولت المدينة إلى مركز لوجيستي محصن للدعم السريع.
وأدى القصف أيضاّ بحسب التقارير إلى مقتل عناصر أجنبية من خبراء تشغيل المسيّرات، وعشرات من ضباط ومقاتلي الدعم السريع كانوا في طريقهم للعلاج في دولة أجنبية. كذلك أربك ترتيبات تجري في نيالا لإعلان حكومة موازية بعدما باتت غير محصنة من الطيران وغير آمنة رغم ضخ مبالغ مالية ضخمة لبناء قدرات للدفاع الجوي وأنظمة تشويش ومخابئ تحت الأرض للمسيّرات.
المدنيون هم الضحية الأكبر
في خضم هذه التصعيدات العسكرية، كان المدنيون هم الضحية الأكبر. فالهجوم على معسكر زمزم للنازحين في دارفور، والذي تأسس عام 2003 لإيواء الفارين من العنف العرقي، لم يكن مجرد عمل عسكري عابر، بل حمل دلائل مروعة على نية التطهير. سقط المئات بين قتلى وجرحى، معظمهم من قبائل الزغاوة والفور، فيما برّر مستشار الدعم السريع علي مسبل الهجوم بأن المعسكر "كان منطقة عسكرية، لم نكن نريد أن يُصاب المدنيون بنيران متبادلة"، الاعتراف الضمني بوجود ضحايا مدنيين لم يخفِ حقيقة أن هذه الأعمال ترقى إلى جرائم حرب، خاصة مع تكرار استهداف أماكن آمنة ومخيمات نزوح.
الصراع يتجاوز الحدود: تدخلات خارجية وأزمات دبلوماسية
لم يعد النزاع في السودان شأناً محلياً، بل تحوّل إلى حلبة صراع إقليمي ودولي. فالدعوى التي قدّمها السودان ضد الإمارات في محكمة العدل الدولية، متهمة إياها بدعم قوات الدعم السريع وارتكاب "إبادة جماعية" ضد قبيلة المساليت، لم تكن سوى فصل جديد في هذا الصراع. رفضت المحكمة الدعوى لعدم اختصاصها، لكن القرار لم يُنهِ الأزمة. فالسودان قطع علاقاته الدبلوماسية مع الإمارات، التي ردّت بدورها بأنها "لا تعترف بقرار سلطة بورتسودان"، معتبرة أن الحكومة الحالية غير شرعية.
تداعيات خسارة الإمارات للورقة السودانية: تراجع النفوذ في حوض النيل والقرن الأفريقي
لعبت الإمارات دوراً محورياً في دعم قوات الدعم السريع عبر توفير الأسلحة والتمويل والدعم اللوجستي، رغم محاولاتها المستمرة نفي هذا الدعم في المحافل الدولية. إلا أن الخسائر المتتالية التي تتكبدها هذه القوات في الميدان بدأت تعكس فشلاً استراتيجياً للإمارات في السودان، ليس على المستوى العسكري فحسب، بل على صعيد نفوذها الإقليمي الأوسع. وكذلك استياء الدول الاقليمية المتأثرة بالأزمة السودانية والمعنية بحل الملف السوداني واستقرار المنطقة كالسعودية ومصر بشكل أساسي.
هذه الخسارة تنذر بتراجع أكبر للنفوذ الإماراتي في منطقتي حوض النيل والقرن الأفريقي الحيوية. فالسودان كان دائماً بوابة رئيسية للتأثير في هذه المناطق، ومع ضعف قبضة أبوظبي في الخرطوم، ستفقد جزءاً مهماً من قدرتها على التحكم في تطور الملف السوداني. هذا التراجع يأتي في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات كبرى، مع تنامي نفوذ قوى إقليمية في القرن الأفريقي، وتصاعد المنافسة على موارد النيل. وبفقدانها ورقة السودان، قد تجد الإمارات نفسها عاجزة عن مواكبة هذه التحولات أو التأثير في مسارها. وهو ما قد يمهد لمرحلة جديدة من إعادة ترتيب التحالفات والنفوذ في المنطقة، تكون فيها أبوظبي لاعباً ثانوياً بعد أن كانت تطمح لأن تكون محركاً رئيسياً للأحداث.