كلام أوروبا وفعلها
لعل أكبر الأوهام التي عاشتها، ولا تزال تعيشها القيادات الفلسطينية منذ «برنامج النقاط العشر» المعتمد في العام ،1974 هو الوهم المراهن على ما يسمى«المجتمع الدولي» لاسترداد حقوق الشعب الفلسطيني في وطنه. و«المجتمع الدولي» في مفهوم وعرف هذه القيادات، كان ولا يزال ممثلاً في الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، حتى عندما كان لا يزال «الاتحاد السوفييتي» السابق قائماً.
وإذا كانت، ولا تزال، هذه القيادات ترى وتعرف أن الولايات المتحدة ليست إلا اسماً آخر لـ «إسرائيل»، إلا أنها رأت دائماً وترى أنها مجبرة على الاعتماد عليها وتفويضها «راعية لعملية السلام»، وترى أن الاتحاد الأوروبي في الوقت نفسه صديقاً أقرب، متعاطفاً مع الشعب الفلسطيني وقضيته، مع أن لا أحد يستطيع ألا يرى تبعية هذا «الصديق» للولايات المتحدة، ولو سياسياً على الأقل. وليس مجهولاً لأحد أن هذه "الرؤية الفلسطينية" تأتي من أمرين: الكلام المعسول الذي تسمعه القيادات الأوروبية للقيادات الفلسطينية، والمساعدات المالية (المشروطة) التي تقدمها لها. وهكذا تكون المعادلة: قوة ونفوذ الولايات المتحدة، ومنح ومساعدات الاتحاد الأوروبي. لكن الحقائق عنيدة، كما يقال، وما أسهل أن تنكشف حقيقة هذا الصديق!
ففي يوم الأحد الماضي 8/6/2014، وقع الاتحاد الأوروبي والكيان الصهيوني اتفاق تعاون علمي، في إطار البرنامج العلمي الأوروبي المعروف باسم (هورايزون 2020)، والذي شكل لفترة طويلة موضوع خلاف بسبب النشاط الاستيطاني «الإسرائيلي» في الأراضي الفلسطينية المحتلة في حزيران 1967 . وتم التوقيع بحضور رئيس الحكومة «الإسرائيلية» بنيامين نتنياهو، ورئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروزو، الذي لم يفته أن يشارك في "مؤتمر هرتسليا" الأمني «الإسرائيلي» بكلمة، أظهرت مدى الحرص الأوروبي على «السلام في الشرق الأوسط»!
والبرنامج الذي تمت المصادقة على مشاركة الكيان الصهيوني فيه، خصص له ميزانية بلغت (80 مليار يورو)، حصة "إسرائيل" منها (4 .1 مليار يورو)، لتمويل البحث والابتكار. والكيان الصهيوني هو الدولة الوحيدة غير الأوروبية التي سمح لها بالمشاركة فيه . وقد قال باروزو، فيما يشبه تبرير هذه المشاركة: "إن "إسرائيل" تقوم بدور مهم في البحث والابتكار، وهي شريك مهم للاتحاد الأوروبي في هذه المجالات" . وكانت المفاوضات بين الجانبين شاقة في الفترة التي سبقت التوقيع، ولكن في تشرين الثاني 2013 تم التوصل إلى "تسوية" بين الحكومة "الإسرائيلية" ووزيرة خارجية الاتحاد، كاترين أشتون، أرضت الطرفين . والحقيقة أنها أرضت الحكومة "الإسرائيلية"، وقبلتها أشتون كحيلة تغطي تراجع الاتحاد، حيث نص الاتفاق على أن "تحترم بالكامل المتطلبات القانونية والمالية للاتحاد الأوروبي، وفي الوقت نفسه الحساسيات السياسية والمواقف المبدئية ل"إسرائيل""! ورفض نتنياهو أن تذكر حدود 1967 في الاتفاق . لكن هذه "التسوية" تضمنت بنداً ينص على: "أن أي كيان يعمل وراء الخط الأخضر سوف يكون قادراً على التقدم بطلب الحصول على قروض مالية من ميزانية البحث العلمي "الإسرائيلية"، وليس من أموال هورايزون 2020" . وقد اعتبرت جهات فلسطينية أن في الاتفاق ما ينطوي على اعتراف بضم القدس الشرقية، وقد أكد تصريح للمسؤول المالي "الإسرائيلي" في المشروع هذا المعنى أيضاً!
وكعادته، وعادتها، سارع الاتحاد الأوروبي وبعض دوله، بصورة جماعية وفردية، إلى إدانة الإجراءات "الإسرائيلية" الأخيرة، وخصوصاً الاستيطانية منها، رداً على تشكيل "حكومة الوفاق الوطني" الفلسطينية، التي جاءت ثمرة لاتفاق المصالحة بين حركتي "فتح" و"حماس"، ثم جاء التوقيع على البرنامج العلمي . وفي كلمته التي ألقاها في مؤتمر هرتسليا، قال باروزو: "من أجل سلام مستقبلي، وتشكيل حكومة شرعية تمثيلية، يجب دعم المصالحة الفلسطينية" . لكنه استدرك معيداً "شروط الرباعية" قائلاً: "على أي حكومة فلسطينية أن تلتزم بنبذ العنف وبحل الدولتين مع التوصل إلى تسوية للنزاع عبر التفاوض وقبول الاتفاقيات والاعتراف ب"إسرائيل""! ودعا باروزو إلى "التحلي بالشجاعة السياسية واتخاذ خطوات حاسمة والرهان على السلام"!
وهكذا تتكشف صداقة "الاتحاد الأوروبي الصديق" عن كلام معسول وحفنة من الدولارات، وحض وتشجيع للقيادة الفلسطينية على التفاوض والتنازل عن الحقوق، باسم الحرص على السلام! أما المواقف الفعلية فهي دائما في السلة "الإسرائيلية". ولقد تحدث البعض وبالغ في موضوع حملة المقاطعة ضد المستوطنات، وأهميتها خصوصاً في أوروبا، لأنها تستورد ما نسبته 32% من الصادرات "الإسرائيلية". وذهب البعض إلى تقدير الخسائر "الإسرائيلية" المتوقعة جراء ذلك بنحو (8 مليارات دولار) . لكن مصادر "إسرائيلية" قالت إن حملة المقاطعة تراجعت كثيراً في الفترة الأخيرة، وبالذات في أوروبا، وذكرت موقف أكبر منظمة طلابية أوروبية كانت قد رفضت المقاطعة، وقرار المحكمة العليا في بريطانيا الذي قضى بأن نشاط المستوطنات لا يتعارض مع القانون الدولي، وصندوق التقاعد الهولندي الذي سحب موقفه الذي كان مؤيداً للمقاطعة، وذلك وفقاً لصحيفة (معاريف) "الإسرائيلية".
وبطبيعة الحال، فإن مواقف الشعوب الأوروبية ليست متطابقة مع المواقف الرسمية للاتحاد الأوروبي، لأن "الديمقراطية" لا تسمح بالتطابق، لكن الاعتبار في النهاية للمواقف الرسمية، ومن دون نكران لتأثير محدود لمنظمات المجتمع المدني. والقراران الأخيران للاتحاد حول الموقف من النشاط الاستيطاني، والموقف من "حكومة الوفاق" الفلسطينية، يظهران كيف تلتف حكومات الاتحاد على التعاطف الشعبي وتنتهي بتجاهله، إذ ربط القرار الأول بين موافقة القيادة الفلسطينية على استئناف المفاوضات ووقف الاستيطان، واشترط الثاني دعم الحكومة الفلسطينية بالتزامها بشروط الرباعية الدولية! وهكذا تظهر الحاجة مجدداً إلى عدم الأخذ بنصيحة السنيور باروزو .
المصدر: الخليج